رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

آباء الثورة المصرية "5"


ثمة فكرة شائعة فى الثقافة المصرية أن «الماركسية» مناقضة للدين، مع أن كل الأفكار التى نادت بالمساواة والعدل الاجتماعى انطلقت من قاعدة أخلاقية.

سبب الفكرة الخاطئة هو الاختزال المخل لمسألة «فصل الدين عن السياسة» واعتبارها قطيعة بين الاثنين.

لعل هذه السطور ضرورية قبل الحديث عن «نبيل الهلالى» الملقب بـ«قديس الحركة الوطنية» الذى يحسبه الكثيرون شيوعياً علمانياً لا دينياً، ويحسبه العارفون به واحداً من أولياء الله الصالحين ويستحق ضريحه أن يكون مزاراً للمتصوفين!

فلا يوجد نظير فى تاريخ الإنسانية فعل ما فعله محامى الأحرار والمظاليم إلا الخليفة «عمر بن عبد العزيز» الذى تنازل عن كل ثروته لبيت المال.

وإلا الأديب العالمى «ليو تولستوى» الذى جمع الفلاحين فى ضيعته المترامية الأطراف ووزع عليهم صكوكاً بملكية أرضه، وقال لأقاربه: كيف أمتلك كل هذه الأرض الشاسعة بينما الفلاحون يموتون جوعاً؟

ولكى نفهم أسبابه لنا أن نعلم أن الأديب الروسى الكبير صاحب روايات «الحرب والسلام» «وآنا كارنينا»، كان فيلسوفاً أخلاقياً، وله كتاب صوفى بعنوان «مملكة الرب بداخلك!!»

أما نبيل الهلالى فقد تبرع بميراثه كله من الأطيان الزراعية وقام بتوزيعها على الفلاحين، وكان قد ورث عن أبيه نجيب باشا الهلالى آخر رؤساء الوزراء فى العهد الملكى ألفاً وثمانمائة فدان من أجود الأراضى الزراعية تنازل عنها جميعاً ولم يحتفظ لنفسه بقيراط واحد!

تخرج نبيل الهلالى فى كلية الحقوق عام 1948، وزامل «محمد سيد أحمد» فى حركة «حدتو» الشيوعية وانفصل عن أسرته وترك القصر، وعاش مع الفقراء إثر خلاف مع أبيه المحامى الكبير، حيث كان يعمل بمكتبه، وفى إحدى القضايا وقف أبوه يترافع، وما أن انتهى من المرافعة طلب الابن الكلمة من القاضى أن يواصل المرافعة فإذا به يناقض مرافعة أبيه لصالح خصومه، وقال للقاضى إن مهمتنا الانتصار للحق وإظهاره من تحت ركام الباطل!

وسأله الأب لم فعلت ذلك؟ قال لئلا أخالف ضميرى.

عاش نبيل الهلالى حياته كلها واقفاً فى ساحات القضاء، مدافعاً عن الحريات والسجناء، فى مواجهة كل النظم المستبدة! وكان يؤدى مهمته متطوعاً كواحد من أصحاب الرسالات.

ورغم سنوات السجن والتعذيب لم يفقد «نبيل الهلالى» ابتسامته ولا حيويته، ولا اشتكى يوما لأحد، ولا حقد على خصومه وجلاديه بل التمس لهم عذراً، وقد ظل محتفظاً ببشاشة وجهه ونبل خلقه، وتسامحه مع الآخرين وتصالحه مع نفسه حتى آخر يوم فى حياته، ومات سليل الطبقة الارستقراطية ابن الباشاوات فى شقة متواضعة بالإيجار!

وفى يوم 19 يونيو 2006 خرجت جنازة شعبية من مسجد «عمر مكرم» يتسابق فيها المشيعون ويتشاجرون لحمل تابوت، يرقد بداخله مناضل أسطورى، يتحلى بتسامح النبلاء، وصبر الأنبياء.