رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

العلاقات الدولـيـة المصـريـة بين التقارب والتباعـد «5»


ويشير الواقع إلى أن الولايات المتحدة هى التى قامت بتوطين هذا التنظيم فى المنطقة الحدودية بين سوريا والعـراق، حتى تُرسخ تقسيم العـراق أولاً إلى دولة كردية وأخرى شيعـية ودولة سنية، وحتى تحافظ ثانياً على قوة الدفع للفوضى التى أحدثتها ثورات الربيع العـربى التى أغـرقت فيها شعـوب المنطقة

تناولت فى المقالات السابقة أهمية زيارتى المشير السيسى إلى روسيا «كوزير للدفاع ثم كرئيس للدولة المصرية» من حيث تأثيرهما على العلاقات الدولية وعلى بنيان التوازن الاستراتيجى على مستوى النسقين الإقليمى للشرق الأوسط والدولى، فمصر تهدف إلى استعادة مكانتها الإقليمية التى فـقـدتها فى عام الظلام لحكم الجماعة الإرهابية، وروسيا تهدف إلى استعادة نفوذ القـوة السوفييتية العـظمى، بينما تهدف الولايات المتحدة إلى الاحتفاظ بمركز الهـيمنة، وأن أحد الاشتراطات الرئيسية لاحتفـاظها بمركز الهيمنة عـدم قيام قوة عالمية أو إقليمية يمكنها التحكم فى إقـليم حيوى مثل المنطقة العربية باعـتبارها قلب العالم وباعـتبارها من أكثر المناطق أهمية وأخطرها حساسية، وأوضحت خطة برنارد لويس التى وضعها لتقسيم المنطقة وفقاً لرؤية «بريجنسكى» الاستراتيجية للهيمنة على المنطقة، والتى بدأها بالعـراق ليكون نموذجا لتقسيم المنطقة، فافتعـلت الولايات المتحدة حرب الخليج الثانية «غزو وتحرير الكويت» التى انتهت فى فبراير 1991 بصدور قرار من مجلس الأمن يقضى بإقامة منطقة حظر جوى بين خط عـرض 33 «لحماية الشيعة جنوبه» وخط عرض 38 «لحماية الأكراد شماله» وهو ما يعـنى تقسيم العراق بين الأكراد والشيعة والسنة.

واليوم استكمل تأثير حرب الخليج الثالثة على تفاعلات العلاقات فى المنطقة، والتى أججتها الولايات المتحدة لتفعـيل قرار تقسيم العـراق على أرض الواقع، فاتهمته كذباً بامتلاك الرادع النووى وأسلحة الدمار الشامل الأخرى، واتهمت رئيسه بعـدم الانصياع لقرارات مجلس الأمن وبمسانـدته للإرهاب وإقامة علاقات مع جماعات إرهابية، وعـبأت الرأى العام العالمى وحشدت تحالفاً دولياً لغـزوه واحتلاله وتخليصه من استبداد حاكمه الطاغـية وقدمته قربانا على مذبح الديمقراطية، ثم أعـدَت دستوراً مشوهاً وأتت بقائد آخر حتى يملأ العـراق رحمة وعـدلاً ويقيم نظاماً ديمقراطياً يدعم الحريات وحقوق الإنسان، فقام بتسريح الجيش العـراقى الذى اكتسب خبرة وكفاءة قتالية عالية من حربى الخليج الأولى والثانية، وبنى جيشاً بلا عـقـيـدة ففـر فى أول مواجهة أمام ميليشيات تنظيم «داعش» الأقل منه عـدداً وعـدة.

ويشير الواقع إلى أن الولايات المتحدة هى التى قامت بتوطين هذا التنظيم فى المنطقة الحدودية بين سوريا والعـراق، حتى تُرسخ تقسيم العـراق أولاً إلى دولة كردية وأخرى شيعـية ودولة سنية، وحتى تحافظ ثانياً على قوة الدفع للفوضى التى أحدثتها ثورات الربيع العـربى التى أغـرقت فيها شعـوب المنطقة ، دون أن يكون لها قائد يُسيطر على تفاعلاتها، أو أن يكون لها رؤية لمشروع قومى تلتف الشعـوب حوله، ولكى تبث الفتن ثالثاً التى تُؤدى إلى جر الشعـوب إلى آتون التقاتل والتناحر والتباغض، حتى تحول دون إفراز نخب قادرة على قيادة هذه الدول، والبدء رابعاً فى تفتيت سوريا وهو الأهم، فادعـت أن هذا التنظيم قد تجاوز حدوده كثيراً الأمر الذى يتعين معه ممارسة شىء من الانضباط عليه قبل أن يفرط أو أن يطغى، فدعـت إلى تحالف دولى لدراسة وتقييم الأوضاع وإتخاذ الترتيبات الأمنية لمواجهة الأخطار والتهديدات التى قد يواجهها هذا التنظيم وحده دون غـيره ضد السلم والأمن الدوليين.

ويكون واهماً كل من يـتصور أن الولايات المتحدة قد أغلقت ملف العـراق، حيث يُمكن للمراقب لتفاعلات الموقف إدراك أن الهدف الرئيسى من هذا السيناريو هو رغـبتها فى العـودة إلى العـراق، حيث يُعـتبر المتكأ الرئيسى لتنفيذ مخططها لتقسيم سوريا، خاصة بعـد أن أصبح «أوباما» فى عجلة من أمره بعـد أن أوشكت فترة رئاسته الثانية على الإنتهاء دون أن يُحقق ولو نذراً يسيراً من الهدف الاستراتيجى الذى أتى من أجله، وهو إعادة هيكلة وتشكيل الشرق الأوسط الكبير، كما يمكن للمراقب أيضاً إدراك التناقض فى الموقف الأمريكى، فبينما قرر أوباما دعم المعارضة السورية المعـتدلة مادياً ومعـنوياً وعسكرياً لرفع كفاءتها القتالية، إلا أنه قد صرح فى أحد خطاباته الأخيرة بـ «أن الحديث عـن معارضة معـتدلة قادرة على هزيمة الأسد هو درب من الخيال السياسى، فقد استهلكت الإدارة الأمريكية كثيراً من الوقت والجهد حتى تسقط المعارضة النظام لكنها لم تستطع» وبينما تسعى الولايات المتحدة إلى تصفية هذا التنظيم، إلا أنها تغـض الطرف عن إمداده بالمال والسلاح من حلفائها الإقليميين، وبينما يُدرك البنتاجون يقيناً أن تصفية التنظيمات الإرهابية تتطلب هجمات برية بالإضافة إلى الضربات الجوية، إلا أن أوباما يُصر على الاكتفاء بالضربات الجوية فقط، وإزاء هذه التناقضات استشعـر الحلفاء المقربون زيف ما تدعـو إليه الإدارة الأمريكية، فقررت بريطانيا وألمانيا عـدم الانضمام إلى التحالف، وقررت فرنسا عـدم الاشتراك فى الضربات الجوية خارج حدود العـراق، فما سلوك الإدارة الأمريكية وحلفائها لتصفية «داعش» فى ظل هذه التناقضات، هذا ما سأتناوله الأسبوع المقبل بإذن الله.

خبير سياسى واستراتيجى