رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

العلاقات الدولـيـة المصـريـة بين التقارب والتباعـد «2»


هل يمكن أن تقبل الولايات المتحدة إزاحة مركـز الهـيمنة بعـد كل هذه الترتيبات التى استمرت أكثر من 110 سنوات، أم أنها ستسعى للاحتفاظ به إن رهـبا أو رغـبا، وما أدوات تحقيق ذلك؟ هذا ما سأتناوله الأسبوع المقبل بإذن الله.تناولت الأسبوع قبل الماضى تأثير زيارتى المشير السيسى إلى روسيا على نمط العلاقات الدولية المصرية بُعـدا وقُربا من بعـض القوى، إذ ستؤثر نتائجهما المتوقعة ليس فقط على التوازن الاستراتيجى الإقليمى فى الشرق الأوسط بل أيضا على التوازن الدولى، ذلك أن القائد السياسى يلعـب دوراً مهماً فى توجيه وإنجاح هذه العلاقات، فالرئيس السيسى يسعى إلى استعادة مكانة مصر الإقليمية التى فقدتها إبان عام الظلام الذى استولت فيه الجماعة الإرهابية على حكم مصر، ويسعى الرئيس بوتين إلى استعادة نفوذ القـوة السوفييتية العـظمى، حيث تعـتبر روسيا هى الوريث الطبيعـى لها، بينما يتمسك الرئيس «أوباما» باستقرار مركز الهـيمنة Focus of Hegemony فى قلب الولايات المتحدة رهـبا أو رغـبا، وقبل أن أتناول استراتيجيات القوى الثلاث فى تحقيق أهدافها، فإنه يتعـين أن أوضح كيف سيطرت الولايات المتحدة على العالم.

فقد تمكنت الولايات المتحدة من جر الاتحاد السوفييتى إلى سباق تسلح يفوق كثيرا قدرته الاقتصادية، فهزمته فى حرب باردة استحق أن يطلق عـليها دون مبالغة الحرب العالمية الثالثة، ثم عـملت على تفكيكه وتركته بقايا دول وأنقاض شعـوب، ثم انفردت بالنفوذ على الساحة الدولية بعـد أزمة الخليج الثانية «غزو وتحرير الكويت» عندما تمكنت من بناء تحالف دولى لم تشهده البشرية من قبل ، فى الوقت الذى كان فيه الاتحاد السوفييتى غارقا فى بحث مشكلاته الناجمة عن انهياره وتفككه، ويرجع الفضل الأول فى سيطرتها على العالم إلى الأدميرال الفريـد ماهان A.Mahan صاحب نظرية القوى البحرية التى صاغها فى كتابه Influence of Sea Power on History عام 1902، والتى تقابـل نظرية لـماكـنـدر Mackinder عن القوى البرية، ونظـرية القوى الجوية لـدى سيفـرسكى De Severski وهى النظريات التى تبحث فى استراتيجيات السيطرة على العالم ، وتتلخص نظرية ماهان فى إيجاز شديـد فى أن «من يسيطر على البحار والمحيطات لن يلبث طويلا حتى يسيطر على العالم بأسره ».

وحدد «ماهان» استراتيجية تحقيق هذا الهدف متكئا على بعـض الحقائق، فاستند أولا عـلى أن جميع بحار ومحيطات العالم تتصل ببعـضها لتشكل بحرا عالميا واحدا إلا فيما نـدر «القوقاز ـ البحر الميت»، وبالتالى فمن السهل إيجاد وسيلـة واحـدة ونظام واحد للسيطرة على هذا البحـر العالمى «قوة بحريـة متفوقة»، وأشار ثانيا إلى أهمية الاستفادة من تجـربة الملكة فكتـوريـا 1837ـ 1901فعـندما امتلكت بريطانيا فى عهدها أسطولا بحريا متفوقا لا تمتلكه القوى المنافسة تمكنـت من تأسيس إمبراطورية لا تغـيب عـنها الشمس، ثم جمع ثالثا بين مفهومى الجيوستراتيجية والجيوبوليتيكية فنادى بشق قـناة تصل المحيطـيـن الأطـلنطى والهـادى عـبر البحـر الكاريبى «قناة بنما» وبقاء مسطاحى القناة ملكا للولايات المتحدة، وأكد رابعا أهمية السيطرة والتواجد فى مناطق منابع الطاقة والمعادن الاستراتيجية اللازمة لبناء الأسطول والتصنيع الحربى، ونصح خامسا بضرورة تقليص النفوذ الاستعـمارى أينما وجد ثم إبعاده نهائيا على أن تقوم الولايات المتحدة بملء الفراغ الاستراتيجى الذى سينشأ، وأشار سادسا إلى أهمية الاستفادة من نظريتى ماكندر و دى سيفرسكى وضرورة وجود قوة برية وأخرى جوية على متن الوسيلة البحرية «حاملة الطائرات» مع تعديل قلب الأرض الذى حدده ماكندر ليكون قلب الشرق الأوسط «المنطقة العـربية» واستند أخيرا إلى أن السيطرة على العالم تستلزم ضرورة التواجد والسيطرة على الجزر الاستراتيجية فى كل من المحيطين الهنـدى والهادى بما يضمن أن يكونا بحيرتين أمريكيتين مع التوسع فى إنشاء القواعد البحرية لتمركز الأساطيل الأمريكية وضمان تقـديم الخدمات اللوجستية لها، ففى المحيط الهندى اتفقـت مع بريطانيا على تحويل جزيرة دييجو جارسيا إلى أكبر قاعـدة بحرية أمريكية وأنشات أكبر محطة تموين سفن فى جزر سيشيل وقاعدة بحرية عملاقة فى أرخبيل دهلك بإريتريا، وحصلت على تسهيلات فى موانى ممباسا بكينيا، وبورسودان وجدة وميناءى صلالة ومسقط فى عمان، وميناء المنامة فى البحرين وكراتشى فى باكستان، وأنشأت قاعـدة «العـديـد» و«السيلية» ومركز قيادة رئيسى فى قطر، أما فى المحيط الهادى فقد اشترت آلاسكا وجزر قـوس الوشـيـان من روسيا وجزر الفـيليـبـيـن من إسـبانيـا مقابـل20 مليـون دولار، واستولت عـلى جزر ميدواى والسامو وهاواى، وأجـبـرت اليابان عـلى إخلاء جزر كارولينا ومارشال ومارينا، حتى أصبح المحيطان الهندى والهادى بحيرتين امريكيتين ينعـم فيـهما الأمريكيـون بالهدوء والسكينة.

فهل يمكن أن تقبل الولايات المتحدة إزاحة مركـز الهـيمنة بعـد كل هذه الترتيبات التى استمرت أكثر من 110 سنوات، أم أنها ستسعى للاحتفاظ به إن رهـبا أو رغـبا، وما أدوات تحقيق ذلك؟ هذا ما سأتناوله الأسبوع المقبل بإذن الله.

■ خبير سياسي واستراتيجى