رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمد ناجى.. الإبداع والألم


وصل إلى القاهرة الروائى الكبير محمد ناجى قادما من باريس بعد رحلة علاج استمرت لأكثر من عامين. أدهشنى ناجى دوما برواياته العبقرية خافية قمر، ومقامات عربية، والعايقة بنت الزين وغيرها، ثم أدهشنى كصديق بتكوينه الإنسانى النادر. كتب ناجى على سرير المستشفى فى باريس رائعته «قيس ونيللى» التى نشرت فى جريدة «التحرير...

... ثم «سيد الوداع» وينهى الآن روايته « سيدة الماسنجر». لم تستطع وطأة المرض الطويل ولا العمليات الجراحية المتصلة أن تهدم عزيمة ناجى الأديب أو تسوقه إلى الاكتئاب أو فقدان الثقة فى دور الكاتب ورسالته. لم يستطع البدن أن يخنق زهرة الروح بقبضة الألم. هذا رغم أن معظم الأدباء كائنات سريعة الاستجابة للحزن والاكتئاب. وبعض الصفحات التى كتبها العقاد تدل على اكتئاب صريح، وكانت مى زيادة من ضحايا ذلك المرض، وأيضا عبد الرحمن شكرى، وصلاح عبدالصبور، بل إن تحليل شخصية عمر الحمزاوى فى رواية الشحاذ يؤكد تعرض نجيب محفوظ لهذه الحالة التى وصفها محفوظ بدقة من خبرها بنفسه. وفى تاريخ الأدب العالمى حالات مماثلة : إدجار آلان بو، وموباسان، وجوجول، وألبير كامى الذى عانى قلقا مزمنا وذعرا من الأماكن الفسيحة، وهمنجواى الذى تلقى علاجا نفسيا طويلا قبل انتحاره، ورحمانينوف الذى أهدى أجمل مقطوعاته الموسيقية إلى طبيبه المعالج. وفى دراسة أجريت على مجموعة أدباء لأحد علماء النفس حول المرض والإبداع أجريت على مجموعة أدباء تبين أن 74% منهم مصابون بالاكتئاب. لكن محمد ناجى يمضى على طريق جراهام جرين الذى قال إن «الكتابة أسلوب من أساليب العلاج»! يشفى ناجى خلال معركته من أجل انتصار الصورة على الأصل والخيال على واقع الحال. ويؤكد «هافيلوك آليس» فى دراسة له أن الاستغراق فى النشاط الإبداعى نوع من العلاج النفسى خاصة للأدباء الذين يمارسون عملا يحتاج إلى تركيز وتوتر شديدين. وكان همنجواى يكتب كل صباح لمدة ساعتين القلم فى يد وكأس فى يده الأخرى. وكان يتناول يومياً 17 كأساً من الخمر وينهى يومه بزجاجة كاملة. أما بيتهوفن فكان يتناول فى بعض الأيام أكثر من ثلاثين زجاجة حبوب مهدئة! ولا ترجع أسباب ذلك التوتر والضغوط النفسية إلى طبيعة الإبداع فقط، ولكن إلى السمات الشخصية المشتركة للمبدعين بصفتهم يتسمون بالاستقلال النفسى والفكرى، وإلى أن الإبداع عملية تهدد استقرار النظم السياسية الحاكمة بأفكار ورؤى جديدة. وستظل الرواية المصرية والعربية تذكر لناجى أنه ارتفع بها إلى ذرى غير مسبوقة بضفيرة من الشعر والخيال مشبعة بهموم الشعب وآماله ونماذجه الإنسانية البسيطة، بدءا من روايته «لحن الصباح» حتى عمله الأخير. لم يفقد ناجى الأمل لحظة، ولم يروج لأمل زائف، ولم يكن يوما جزءا من جهاز الدولة الثقافى الرسمى، وعندما حل المرض بناجى كان الأديب الكبير مسلحا بإيمانه بدوره وثقته فى أن «العزيمة تحرس الفضائل الأخرى كلها»، وأن عليه أن يهزم الألم بالإبداع. لقد انتصرت الروح العظيمة وجرجرت البدن إلى أعراسها، لا يتوه اللحن من الطيور المغردة حتى وهى فى قبضة الأوجاع.