رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الحج والعمرة.. وفقه الأولويات


قال لى صديقى إن والده ميسور الحال يحرص كل عام على زيارة بيت الله الحرام وأداء مناسك الحج، ظناً منه أن أكثر الناس أداء للفريضة أقربهم من الله فى الدنيا والآخرة. فالرجل لم ينل من العلم إلا أدناه، وكانت كلماته مفتاحاً لحوار امتد لأكثر من ساعتين وانتهينا فيه إلى أن الإسلام الذى نعرفه يرى أن من أولوياته البحث فى الضروريات وهو ما تعارف عليه الناس أخيرًا بفقه الأولويات...
... فأبواب الخير التى يثاب المرء عليها لا تعد ولا تحصى، وما يقرب العبد من ربه لا يقف عند حدود الفرائض الوارد بها كثير من النصوص فى القرآن والسنة، فهناك من يظنون أن تعمير المساجد وتشييدها من أعظم القربات ترجمة لقول الله تعالى: «إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ» «التوبة:18». ولا يعلمون أن هناك من الأولويات ما لا يقل بحال عن ثواب الإنفاق فى بناء المساجد، وربما يدر عائداً على صاحبه فى الدنيا والآخرة، لا سيما أن أرض الله واسعة، ورسولنا -صلى الله عليه وسلم- هو القائل: «وجعلت لى الأرض مسجداً وطهوراً». ومن ثم فبمقدور كل من يريد الصلاة أداءها فى أى مكان دون الحاجة إلى ما نراه من تبذير وإسراف فى كثير من عمارات المساجد. ومراتب الخير فى الإسلام لا تحتاج إلى بيان، والنبى- صلى الله عليه وسلم- يقول: «الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق». ومن ثم فقصر الإنفاق على جانب معين وإهمال جوانب أخرى قد تكون أولى بالإنفاق منه يعد من قبيل مخالفة مقاصد الشريعة. ولذلك ينبغى أن نُذكر هنا بما جاء على لسان الصحابى الجليل عبد الله بن مسعود رضى الله عنه عندما قال: «يكثر الناس فى آخر الزمان من الحج بلا سبب يهون عليهم السفر ويبسط لهم فى الرزق، فيهوى بأحدهم بعيره بين الرمال والقفار، يضرب فى الأرض وجاره إلى جنبه مأسور لا يواسيه». وإذا كان الشىء بالشىء يذكر فالمسلمون هذه الأيام يعانون ويلات الأزمات والأمراض ما ظهر منها وما بطن، ولا يجدون من يشد أزرهم ويخفف عنهم آلامهم، فهناك طالب العلم الفقير ذو الحاجة الذى لا يجد من يؤازره والنتيجة الحتمية فشل ذريع لمستقبله. وهناك المساكين والفقراء الذين تعرفهم بسيماهم وهم لا يسألون الناس إلحافاً ولا يجدون من يسد جوعتهم ويستر عورتهم، وتجاهلهم يعنى فتح الطريق أمامهم إلى عالم الجريمة والرذيلة. وهناك من المسلمين مستضعفون قابضون على دينهم مدافعون عن الأرض والعرض والمقدسات، لا يجدون من يمد إليهم يد المعونة والنصرة ولو بالطعام والشراب، وإن كنا مأمورين بالقتال معهم جنباً إلى جنب لا سيما وقد دخل العدو ديار المسلمين. وهناك أرامل الشهداء وأبناؤهم، مات عائلهم ومن كان ينفق عليهم ولم يعد لهم فى هذه الحياة يد حانية تمسح عنهم آهات الدهر وآلامه. فكل هؤلاء أولى عند الله عز وجل من تكرار الحج والعمرة بلا داع، اللهم إلا محاولة إشباع عاطفة لا محيص من وصفها بالأنانية المفرطة، والإغراق فى حب الذات. وها هى تلك الحقيقة يرسيها جلية هذا المتصوف الزاهد «بشر بن الحارث» عندما جاءه رجل وقال له: يا أبا نصر إنى أردت الحج وجئتك أستوصيك فأوصنى. فقال له: كم أعددت من نفقة الحج؟ قال: ألفى درهم. فقال له: هل تريد الحج تزهداً أم اشتياقاً إلى البيت أم ابتغاء مرضاة الله؟ قال: والله ابتغاء مرضاة الله. فقال له: هل أدلك على ما تحقق به مرضاة ربك وأنت فى بلدك وبين عشيرتك، تعطى هذه الدراهم عشرة أنفس: فقيراً ترمم فقره، ويتيماً تقضى حاجته، ومديناً تقضى عنه دينه، ومعيلا تخفف عنه أعباء عياله، ولو أعطيتها واحدًا لتسد بها حاجته فهو أفضل. وهل هناك أسمى من أن يطعم المسلم جائعاً أو يداوى مريضاً أو يأوى مشرداً أو يكفل يتيماً أو يقضى حاجة أرملة، خاصة إن كان كل هؤلاء من المدافعين عن المقدسات والأوطان. وصدق الله تعالى حيث يقول: « أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ» «التوبة:19».

وكيل وزارة الأوقاف - كفر الشيخ