رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الصف.. من مدينة الأنبياء.. إلى ثالوث الفقر والجهل والمرض

جريدة الدستور

على شرق وغرب الطريق الصحراوي للوجه القبلي، تقع مدينة، كانت فيما مضى متنزهًا للملوك والأمراء. وُلد فيها نبي الله موسى "عليه السلام"؛ لكنها في القرن الحادي والعشرين أصبحت مدينة بلا أية مقومات للحياة.. لا ماء ولا كهرباء.. مدينة علتها أكوام من القاذورات.. مدينة شاهدة على مدى ما وصلت به مصر من تدنٍ.. إنها مدينة "الصف" التي تقع جنوب حلوان بحوالي 30 كيلو متر وتشمل أكثر من 30 قرية، وتتبع محافظة الجيزة.

"الصف".. دائمًا ما تكون في طي النسيان.. تتذكرها فقط عندما تقع بها اشتباكات نارية وسطو مسلح، بعد أن أصبحت وكرًا لتجار السلاح، أو غرق المنازل في مياه الصرف الصحي، نتيجة إهمال الحكومة.. فإذا بالمسؤولين يتذكرونها فجأة.

سكانها شابت رؤوسهم في عز الصبى وريعان الشباب.. وجوههم عابسة تكسوها التجاعيد من كثرة الهم والحزن، توقفت بهم عجلة الزمن، إذا مررت بينهم في الشوارع والطرقات رأيت من سار منهم منكسي الرؤوس ينظرون للأرض تائهين شاردين سائحين في بحر الهموم، يتساءلون "امتى هنعرف نعيش زي البني آدمين ويبقى عندنا أكل وشرب وكهرباء ومستشفى تعالجنا ومدرسة تعلم عيالنا؟"

على باب أحد المنازل بقرية "العطيات"، تجلس "ميرفت رجب"، ترقُب أطفالها وهم يلعبون في الشارع، تتأسف على تركهم للمدرسة لظروف الأسرة الصعبة، سرحت بخيالها، ماذا لو مرض أحدهم؟ من يكون لهم الدواء؟ هم لديهم في القرية "مستوصف" من يدخله على قدميه يخرج منه على "نقالة".
"ميرفت" زوجها متوفى، تسكن بالصف منذ أكثر من ثلاثين عامًا، وحال القرية من سئ لأسوأ، "مفيش أنابيب غاز ولا فرن عيش ولا مدارس إلا واحد من كلٍ، ومستوصف (حالته مزرية) بتشتغل بيه دكتورة واحدة بتاعة (نسا وتوليد)، بس هي بتكشف على كله ستات ورجالة وأطفال".

مدرسة.. مقلب زبالة
اضطرت "ميرفت" أن تخرج أحد أبنائها من المدرسة بعدما أنهى الدراسة في المرحلة الإعدادية، "أقرب مدرسة إعدادي على بعد 3 كيلو أوديه ازاي؟! وابني مريض ما يعرفش يمشي المسافة دي كلها.. وظروفنا المادية مش تخلينا نقدر ندفع له تمن المواصلات".

في "العطيات" لا توجد سوى مدرسة واحدة للمرحلة الابتدائية.. ولولا أن هناك لافتة معلقة على بابها تشير إلى أنها مدرسة، لم يكن لنا أن نتخيل أن هذا المكان يتلقى فيها تلاميذ أبرياء تعليمهم.. فهي تتكون من طابق واحد.. أسواره محاطة بمياه الصرف الصحي وأكوام الزبالة.

"ابني التاني تعبان هو كمان بمرض حمى البحر، وعلشان المدرسة بعيدة عليه وهو ما بيقدرشي يمشي؛ فكان بيروح يوم واحد، بس الواد تعب وعمال يقول أنا مش رايح المدرسة تاني".. تقول ميرفت.

طبيبة واحدة.. لكل الأمراض
مشكلة الصحة، أزمة يلاحظها كل زائر للقرية.. فبرغم كبر عدد سكانها إلا أنه لا يوجد بها سوى مستوصف وحيد.. يفتح أبوابه أمام المرضى من الساعة التاسعة صباحا وحتى الثانية عشرة ظهرا ولمدة 3 أيام في الأسبوع..
تقول أم أحمد (إحدى سكان القرية): "لما عيالنا بتمرض لازم نروح بيهم حلوان.. وأوقات حلوان بترفض تستقبلنا، فبنروح مستشفى أبوالريش، وعلى ما نوصل العيال بتكون ماتت".
تضيف "صارخة" قائلة: "إحنا عاوزين نعيش زي البني آمين، جلنا المرض من الإهمال وصبرنا؛ لكن كمان مش عارفين نتعالج.. ارحمونا.. حسبي الله ونعم الوكيل".

الخبز للأقوى..
مشكلة ثالثة.. يعاني منها سكان "العطيات"، وهي عدم توافر رغيف الخبز، فلا يوجد سوى مخبز واحد فقط يعمل حوالي 3 ساعات فقط.. وهو ما يترتب عليه دخول الأهالي في شجار وعراك والخبز في هذه الحالة للأقوى، أما ضعيف الحال فيرجع بخيبة أمل يستقل سيارة حتى حلوان ليشتري الخبز لأولاده، يقول عبد الله محمد "موظف".

يضيف "عبد الله": "هناك فرن مرخص منذ 9 سنوات، لكنه لا يعمل؛ لأن الحكومة لا تدعمه بحجة إن مفيش قمح".

"الصف.. تعوم على بركة من الصرف الصحي"
إلا أن ما مر من مشاكل، لا يمكن مقارنته بالمشكلة الأكبر بالصف، وهي الصرف الصحي، حيث توجد محطة الصرف الصحي التي يتجمع خلفها مياه أكثر من 30 وادي مخرات السيول بما يهدد المنطقة بالغرق.
ترجع المشكلة إلى 30 عامًا، حينما أقامت الدولة محطة الصرف الصحي بقرية عرب أبوساعد؛ بحيث تتلقى الصرف من المعادي وحلوان وطرة و15 مايو؛ ولأن تصميم المحطة كان سيئًا والمواسير مكسورة، ما يعرض المدينة للغرق في الأوساخ.

وكر للسلاح وسرقة السيارات
الصف.. مدينة لا تعاني سوء الخدمات فقط، فمع قيام ثورة 25 يناير، واندلاع حالة الفوضى في البلاد، امتلأت المدينة بالأسلحة، حتى أصبحت وكرًا لتجار السلاح.

يقول سعيد أحمد عبد الناصر، أحد ضحايا السطو المسلح بالصف، إن أفراد ملثمين يحملون أسلحة آلية خرجوا عليه في الطريق الجديد، وأجبروا الركاب على النزول وتسليم هواتفهم، واعتدوا على الركاب، وبنفس الطريقة تم الاستيلاء على سيارة "صلاح علي"، أحد مواطني المدينة، وإعادتها له بعد دفع 15 ألف جنيه.

وعن دور الشرطة وسط كل هذه الأحداث، أكدت أميرة "طالبة" أن الشرطة على علم بذلك، وتعلم أن هناك وسيطًا اسمه معروف لدى الجميع، لكن الداخلية لا تريد أن تتدخل؛ لأن هذه المناطق في غاية الخطورة ومليئة بالأسلحة الثقيلة.