رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الفن والثورة.. فى دنيا جلال الشرقاوى


تدهور حال الفن فى ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضى فى ظل سنوات الانفتاح وانتشرت سينما أفلام المقاولات كتعبير عن حالة صعود شرائح اجتماعية إلى القمة عبر الكسب السريع. وكان هذا مرتبطا باقتصاد يقوم على التجارة واستيراد أى شىء وكل شىء. فى ذلك الوقت انتشر ما سمى بالسياحة العربية وانتشر المسرح التجارى الذى كان يقدم فنا أشبه بالكباريه...
... يبدأ العرض المسرحى من العاشرة مساء حتى فجر اليوم التالى، ويتم تقديمه لفئة من القادرين فى هذا الوقت على دفع ثمن للتذكرة يصل إلى 200 جنيه. يرى المشاهد خلال هذه الساعات اسكتشات من الغناء الهابط والرقص العارى واللحم الأبيض. فى نفس الوقت كانت الأزمات تحيط بمسرح الدولة، وتوقف العديد من العروض، إما لقلة الميزانية أو لإغلاق المسارح لتصليحها وترميمها.

فى وسط هذه الظروف كان هناك الأمل فى مسرح الثقافة الجماهيرية الذى يعتمد على الهواة من الفنانين المبدعين الذين يقدمون فناً راقياً وفكراً دون مقابل مادى سوى بضعة جنيهات لا تغطى حتى نفقات الانتقال. فى هذه الفترة يحسب لعدد من الفنانين فى المسرح الخاص وعلى رأسهم الفنان القدير جلال الشرقاوى، أنه أضاء لياليه المسرحية مصمما ومحافظا على تقديم الفن المسرحى الراقى. قدم من خلاله المسرح الغنائى الاستعراضى وحرص على تقديم وجوه شابة واعدة وتقديم مسرحيات تتناول واقعنا وتناقشه، منها «على الرصيف»، «عطية الإرهابية»، «إمسك حكومة» و «إفرض». وظل الشرقاوى حريصا على ذلك رغم الأزمات الكثيرة التى قابلته والمعارك التى خاضها فى سبيل الحفاظ على مسرحه.

وبالرغم من غياب المسرح الخاص الآن فى ظل الظروف الراهنة المرتبكة، وبالرغم من معاناة الشعب المصرى وقلة العروض المسرحية نجد بصيصا من الأمل والنور يجيىء من مسرح الفن، مسرح جلال الشرقاوى المجاور والملاصق لمعهد الموسيقى العربية. شكرا لهذا الفنان المغامر وسط هذه الظروف على تقديمه مسرحية «دنيا حبيبتى» ليعيد للمسرح رونقه ورسالته.

تلقيت دعوة كريمة من الصحفى والمؤلف الشاب أيمن الحكيم لحضور العرض الخاص للكوميديا الاستعراضية «دنيا حبيبتى» من تأليفه وإخراج جلال الشرقاوى. منذ اللحظة الأولى لدخولك إلى المسرح يلفت انتباهك الشعارات والصور والملصقات على مقدمة خشبة المسرح ويضعك صانعو المسرحية وسط الثورة المصرية والعيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية. جلست وسط لفيف من الأصدقاء والصديقات من مثقفين وأدباء وفنانين وإعلاميين. لا أخفى عليكم أننى قبل العرض بدقائق طرأ على ذهنى شيئان: الشىء الأول الحنين إلى ذكريات الماضى فى منتصف الستينيات حين شاركت فى بطولة أكثر من مسرحية للأطفال على خشبة معهد الموسيقى العربية، بما له من رونق وقدسية. والشىء الثانى الذى بدأت أفكر فيه: ياترى ياهل ترى كيف سيكون هذا العرض الذى يعتبر توثيقا لبعض أحداث ثورة مصر؟ هل ستكون أمسية يغلب عليها التسجيل والسرد والتوثيق مثل الأفلام التسجيلية؟ هل ستمزج بين الغناء والتمثيل؟ هل...هل....؟

يشد انتباهى دقات المسرح الثلاث. عندما ينفتح الستار وتبدأ الإضاءة يشد انتباهك ملابس وديكورات الدكتور محمد الغرباوى. هذا الديكور الذى يضعك فى قلب مصر المحروسة. بلغة المسرح ديكور كبير فخم ثقيل. ورغم ذلك يتحرك بكل سلاسة لينتقل بنا من مشهد إلى مشهد فى ثوان معدودة، فلقد استخدم مصمم الديكور ومنفذوه، الذين أقدم لهم كل التحية والتقدير، التقنيات العالية والألوان المناسبة والصور التاريخية لكل مشهد بشكل رائع، وخاصة مشهد السجن الكبير الذى سجننا جميعا، أبطال المسرحية والجمهور، وخطفنا ووضعنا خلف قضبان الرجعية والظلامية فى السنة التى سيطر فيها المتاجرون بالدين على حكم مصر المحروسة. أما عن الملابس فهى مناسبة للشخصيات بما فيها الملابس الرائعة فى الاستعراضات. تبدأ المسرحية باستعراض غنائى فى ليلة الحنة لتؤكد لنا موهبة صاحب هذه الاستعراضات محمد شفيق وموهبة الراقصين والراقصات الذين تمتعوا بأداء رشيق رائع. وكعادة الشرقاوى يوظف استعراضاته الفنية كجزء أساسى من العرض المسرحى. النص المسرحى حاول فى هذه المدة أن يوجز لنا ما تم فى فترة حكم الجماعة الإرهابية اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا، والمؤامرة على مصر والوطن العربى فى هدم الدولة المصرية وتفكيكها وإضعاف جيشها، وربط ذلك بالدول المتآمرة والدول الممولة ودور الأسرة الحاكمة فى قطر فى المؤامرة على مصر. وإن كان من وجهة نظرى أن النص طويل وكان من الممكن اختصار أجزاء منه ليكون فى فصلين لا يزيد الفصل الواحد على ساعة. وإذا تحدثنا عن الاستعراضات الغنائية فهى تتميز بالأشعار المعبرة القوية للدكتور مدحت العدل والألحان لملحن سيضع قدمه قريبا بين كبار الملحنين وهو محمد رحيم الذى قدم ألحانا تحمل موسيقى شرقية مصرية بجمل لحنية تعلق بذهن المشاهد ووجدانه، موسيقى بإيقاع مسرحى سريع أبرز الصوت القوى الجميل العريض الحساس السلس لنجمة المستقبل نسمة محجوب. استطاع المخرج المسرحى جلال الشرقاوى، المايسترو، أن يقدم لنا هذه المعزوفة بحركة سريعة وإضاءة مناسبة تخرج بك من الضحك والفرفشة إلى الحزن والبكاء، يغوص بك بخطف وسجن مصر، ويطفو بك سريعا على السطح لإنقاذها بشبابها العظيم وجيشها الذى انحاز إلى إرادة الشعب فى 30 يونيو 2013. فالشباب والشعب هم الأمل والعمل والمستقبل. تحية لفريق العرض المسرحى من ممثلين وممثلات استطاع كل منهم أن يصل إلى قلب وعقل المشاهد. تحية لنسمة محجوب بأدائها الرائع بالغناء والتمثيل والاستعراضات، والفارس العملاق كمال أبو رية، وإلى رباعى الكوميديا رضا إدريس وسيد جبر وأيمن إسماعيل والأشطر، ومعهم عماد بأدائه الكوميدى المتميز.

أدعو كل الأسر المصرية وأصدقائى وصديقاتى للذهاب لمشاهدة هذا العرض الرائع فى مسرح الفن، مسرح جلال الشرقاوى