رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

العـراق بين التدخل والتقسيم «5»


يُخطىء من يظن أن هناك قطيعة بين الولايات المتحدة وإيران، وفى هذا السياق أشير إلى التصريح الشهير لبوش الابن الرئيس الأمريكى السابق الذى أدلى به إبان رئاسته، بأنه لا يعـتـزم مهاجمة إيران قبل مغادرته البيت الأبيض، وقد جاء هذا التصريح فى أعـقاب توصية «لجنة بيكر هاملتون» التى تُعـد كبرى الجهات المتخصصة فى دراسة الملف العراقى بضرورة الاستعانة بإيـران لإنقاذ الولايات المتحدة من مأزقها الخانق فى العـراق

تناولت فى المقالات السابقة المنظـور الجيوبوليتيكى الإيـرانى لإحياء الإمبراطوريـة الفارسية والذى ظل ثابتاً لا يتغـيـر منذ أن تمكن البـرامكة من السيطرة على مفاصل الدولة العـباسية، ثم تأكد أثناء حكم الشـاه وترسخ مع تأسيس إيـران الـثـورة، وتناولت أيضاً المنظور الجيوبوليتيكى الأمريكى مع تحليل الرؤية الاستراتيجية لبيرجينسكى مستشار الأمن القومى فى إدارة كارتر التى تقضى بإعادة صياغة الشرق الأوسط التى جعلت حدوده تنطبق على العالم الإسلامى، والتى بدأ تفعـيلها فى سوريا والعـراق، وأوضحت الدورين التركى والإسرائيلى اللذين لا يمكن الاستغـناء عـنهما عـند تنفيذ هذا المشروع، أو أن تكون أحداهما أو كلاهـما بمنآى عن الترتيبات السياسية والأمنية التى يتم الإعداد لها وفقاً للمنظور الأمريكى وحسبما تقتضى مصالحهما، واليوم سأتناول الدور الإيرانى استكمالاً للموضوع

وأود أن أوضح أولاً أهمية سوريا لإيران كما أوضحت أهمية العـراق لها من قبل، فسوريا تُعـتـبـر المحافـظـة الإيرانية رقم 35، حيث تعـتـبـرها إيران أهـم من إقلـيـم خوزستان «الأهـواز» وقد عـبَر مهدى طائب رئيس مركز عـمَار الاستراتيجى الإيرانى بأن إيران لا يمكنها الاحتفاظ بطهران لو سقطت دمشق، بينما يمكنها استعادة إقليم خوزستان عـند سقوطه طالما تحـتـفـظ بدمشق، ولذلك يتعـين عـلى إيـران إمداد سوريا بـ 60 ألـف مقاتـل مدربين عـلى الـقـتال فى المدن، حيث يفـتـقـر الجـيـش السورى إلى هـذا الـنـوع من المقاتلين لكى لا تسقط دمشق، ومن جهة أخرى تمثل سـوريـا أهمية خاصة لإيران من الناحية الجيوستراتيجية إذ تُعـتبـر مـنـفـذها الوحـيد على البحر المتوسط.

وأود أن أوضح ثانياً أن نظام بشار الأسد كان يتعاون مع الولايات المتحدة والغرب قبل الأزمة السورية، خاصة فيما يتعلق باستقرار هضبة الجولان إلى الحد الذى أصبحت فيه أكثر أمناً من الداخل الإسرائيلى، ولذلك لم تكن الولايات المتحدة راغـبة فى إسقاط هذا النظام فى أول الأمر ولكنها كانت تريد فقط تغـيير سياساته المرتبطة مع إيران وحزب الله،أما وقد توصلت إلى التسوية التاريخية بشأن القضية النووية الإيرانية، فمن الطبيعى أن يحدث تراجع كبير فى الموقف الأمريكى تجاه النظام السورى، إذ بدأت الولايات المتحدة فى إعادة تقييم علاقتها بالمعارضة السورية، ففى خطابه الأخير بشأن الأزمة السورية أعلن أوباما أن الحديث عـن معارضة معتدلة قادرة على هزيمة الرئيس الأسد هو درب من الخيال السياسى، وأن الإدارة الأمريكية قد استهلكت كثيراً من الوقت والجهد حتى تقوم المعارضة بإسقاط النظام لكنها لم تستطع إسقاطه، الأمر الذى يشير إلى أن الإدارة الأمريكية تعمل على إدارة الأزمة السورية وليس إلى حلها، وتسعـى إلى تدهور وضعها السياسى والإنسانى، خاصة بعـد أن حققت معـظم أهدافها من هذه الأزمة.

وأود أن أوضح ثالثاً أنه يُخطىء من يظن أن هناك قطيعة بين الولايات المتحدة وإيران، وفى هذا السياق أشير إلى التصريح الشهير لبوش الابن الرئيس الأمريكى السابق الذى أدلى به إبان رئاسته، بأنه لا يعـتـزم مهاجمة إيران قبل مغادرته البيت الأبيض، وقد جاء هذا التصريح فى أعـقاب توصية «لجنة بيكر هاملتون» التى تُعـد كبرى الجهات المتخصصة فى دراسة الملف العراقى بضرورة الاستعانة بإيـران لإنقاذ الولايات المتحدة من مأزقها الخانق فى العـراق، وقد رد رفسنجانى على ذلك بقوله، إن كانت الولايات المتحدة هى البلد الأهم فى العالم، فإن إيران هى البلد الأهم فى المنطقة، ومن المنطقى أن يسويا مشكلاتها العالقة بينهما.

وبالرغم من ذلك، فإنه يبدو أن هناك بعـض الاختلافات فى المحتويات الفكرية للمنظورين الأمريكى والإيرانى، فالولايات المتحدة تريد تقسيم العـراق وسوريا على أساس تركيبة شعـوبهما الإثنية والدينية والمذهبية ليكونا نموذجين لباقى دول المنطقة العربية والإسلامية، أما إيران فلا تريد تقسيم العـراق حيث يمثل التقسيم خطراً على أمنها القومى، بل تريده بلداً موحداً ضعـيفاً يعـج بمشاكله الإثنية والطائفية على الدوام، لكى لا يشكل تهديداً مباشراً على أمنها فى المستقبل، وتريده ساحة رخوة يمكنها النفاذ من خلالها إلى مناطق أخرى من العالم العربى لتحقيق مشروعها القومى وحلمها الدائم لإحياء الإمبراطورية الفارسية، كما تريد سوريا الموحدة المؤهلة بشدة لأن تكون إحدى ولايات الإمبراطورية تحت حكم واليها بشار الأسد، فأى المنظورين سيكون أقرب للتطبيق، وهل يمكن أن توافق الولايات المتحدة تكتيكيا على تطبيق المنظور الإيرانى خاصة بعد أن حققت ما تصبو إليه بعـد أن قامت بتدمير القوة الشاملة لكل من سوريا والعـراق، هذا ما سأتناوله فى الأسبوع المقبل بإذن الله.

أستاذ العلوم السياسية جامعة بورسعيد سابقاً