رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

رؤية نقدية لـ "هيكل.. كاهن يبحث عن فرعون"

رؤية نقدية لـ هيكل..
رؤية نقدية لـ "هيكل.. كاهن يبحث عن فرعون"

عقب قيام ثورة يوليو 1952 راح الصحفي محمد حسنين هيكل يطرق أبوابها بشدة، وبإلحاح منقطع النظير يقدم نفسه كاهنا جديدا للفرعون الجديد، ولم تكن "مفاتيح" الثورة واضحة بعد أمامه.. لم يكن يعرف على وجه الدقة من هو فرعون الثورة، لكن طموحه لأن يكون كاتب الحاكم كان يدفعه بقوة .

الكاتب والروائي الكبير فتحي غانم يشهد على طموح هيكل.. كان يعرفه قبل الثورة بسنوات عندما عين في إدارة التحقيقات بوزارة المعارف، وكان هيكل وقتها يأتي للحصول على أخبار تحقيقات الإدارة لينشرها، يتذكر غانم أن "هيكل كان يقول دائما وبقناعة مطلقة إن الحاكم محتاج لصحفي يعبر عنه وسأكون أنا هذا الصحفي !"

راح هيكل يخطب ود الوجه الظاهر على السطح اللواء محمد نجيب طالبا إجراء حوار معه، لكن نجيب "رفض لقاءه أربع مرات متتالية" بعد أن استعلم عنه من "المخابرات الحربية" وقتها، وجاءه الرد بأن "الصحفي محمد حسنين هيكل عميل لدوائر المخابرات الأمريكية ويتلقى مقابل إعلانات من عبود باشا في صحيفة آخر ساعة وأخبار اليوم"، (أحد أساطين البيزنس في ذلك العهد)، فامتنع نجيب عن التعامل مع هيكل، وكتم سر موقفه منه حتى هاجمه الأخير في إحدى حلقات كتابه "عبد الناصر والعالم" في الأهرام عام 1972 والذي صدر قبلها بعام بالإنجليزية، فقال إن "وكالة المخابرات الأمريكية وضعت تحت تصرف اللواء محمد نجيب، ثلاثة ملايين دولار بشكل شخصي، فاستشاط عبد الناصر غضبا.. وبنى بمبلغ الرشوة برج القاهرة تحديا لأمريكا"، ورد نجيب بحوار مع مجلة الحوادث اللبنانية حدد فيه أن "موقف هيكل منه ليس سياسيا بل شخصيا محضا"، وروى تلك القصة سالفة الذكر، فكتب هيكل في الأهرام مقالا عنوانه "حكاية مع شبح من الماضى!" يغمز فيه ويلمز إلى نجيب ويشير إلى "تقرير سري كتبه السيد حسن التهامي الوزير السابق والأمين العام لرئاسة الجمهورية، حول تفاصيل "الاتصالات بين المخابرات الأمريكية وبين محمد نجيب"، فما كان من نجيب إلا أن أرسل مقالا لإحسان عبد القدوس في أخبار اليوم فند فيه الاتهام حيث أنه لم يكن أصلا في السلطة زمن تلك الواقعة، وأن المبلغ تسلمه حسن التهامي وأن الرشوة كانت موجهة إلى عبد الناصر نفسه، ورفع نجيب دعوى سب وقذف ضد هيكل أمام محكمة الجيزة، ولم يتنازل عنها إلا بعد أن نشر هيكل اعتذارا في الأهرام المصرية والديلي تلجراف البريطانية والنهار اللبنانية، لكن الأخير لم يرفع –وكان أولى به- أي دعوى ضد نجيب أو حتى ضد المخابرات الحربية التي اتهمته صراحة بالتعاون والتعامل مع جهاز مخابرات أجنبي !

رواية نجيب للواقعة أيدها أحمد حمروش صاحب لقب "مؤرخ الثورة" فقال فى كتابه "قصة ثورة 23 يوليو" إن "محمد نجيب لم يكن رئيساً للوزراء في التاريخ الذي ذكره "هيكل" للواقعة وهو نوفمبر 1954-(نقلا عن مايلز كوبلاند في كتابه لعبة الأمم الصادر عام 1969)- إذ كان نجيب وقتها رئيسا بلا سلطات، بعد أن انتهت أزمة مارس 1954 بتجريده من سلطاته، وتحولت مصر لفترة قصيرة إلى جمهورية برلمانية، فأصبحت كل السلطات فى يد رئيس الوزراء آنذاك وهو عبد الناصر.. وليس منطقياً أن تدفع المخابرات الأمريكية ثلاثة ملايين دولار لتأمين رئيس معزول وبلا سلطات أو تأثير ".

انتقل هيكل إلى الوجه الثاني جمال عبد الناصر، فذهب إلى مكتبه عدة مرات حتى استفز وجوده عبد الناصر حسب رواية محسن عبد الخالق أحد أعضاء تنظيم الضباط الأحرار، قال عبد الناصر "كان يجلس في المكتب الملحق بمكتبي صباحا وظهرا ومساء وضايقني هذا الإلحاح، وذات يوم اتجهت إليه مباشرة وسألته ماذا تريد؟ فأجاب: "مجرد حديث معك"، ووافق ناصر وبعد الحوار انصرف هيكل، وفي المساء عاد إلى ناصر يستأذن في أن يقرأ عليه الحوار بعد أن كتبه، وكان تعليق عبد الناصر لمحسن عبد الخالق بعد ذلك "هيكل استطاع أن يقرأ -حتى- أفكاري التي كنت أتمنى أن أبوح بها"، ويؤكد تلك الرواية أيضا أحمد حمروش يقول "أنا من الذين سألوا جمال عبد الناصر في بدايات الثورة سؤالا محددا: لماذا جعلت هيكل قريبا منك إلى هذا الحد؟" فقال "أنت تعلم أنني لم أكن أعرف هيكل معرفة وثيقة، بل كانت معرفتي وعلاقتي الوثيقة بالآخرين، ولكن هيكل هو الوحيد الذي فهمني وفهم ما يدور في عقلي قبل أن أترجم فكري إلى كلمات.. إنه ببساطة يجلس في رأسي ".

وبدأت علاقة لعب فيها هيكل دورا أكبر من مجرد كاتب يصوغ بحرفية أفكار "الفرعون"، بل دور قناة المعلومات والوسيط بين عبد الناصر والباب الخلفي لصناعة القرار السياسي في أمريكا "أجهزة المخابرات"، وكوادرها في السفارة الأمريكية بالقاهرة وواشنطن أيضا .

في أول زيارة يقوم بها عبد الناصر إلى موسكو بعد قيام الوحدة بين مصر وسورية اصطحب فيها نائبيه المصري عبد الحكيم عامر والسوري أكرم الحوراني، وعدداً من الوزراء والصحفيين، من مصر: هيكل ومصطفى أمين و فكري باشا أباظة وآخرين ومن سورية اثنان أحمد عسه ونهاد الغادري، وفي أحد أيام الزيارة – حسب رواية الغادري- رأت القيادة السوفيتية أن يصطحب الرئيس خروشوف الرئيس ناصر وبعض أعضاء وفده في زيارة لمراكز القوة النووية في الاتحاد السوفيتي، وحددت القيادة السوفيتية عددا من أعضاء الوفد بينهم عامر والحوراني إلى جانب ناصر، غير أن القيادة السوفيتية فوجئت بأن اسم هيكل قد أضيف لوفد الجمهورية العربية المتحدة، لكن خروشوف شطب بيده اسم هيكل، وحين نظر الرئيس عبد الناصر إليه قال خروشوف ما معناه: "الموقع بالغ السرية والزيارة سرية وليست مفتوحة". وأضاف خروشوف: "تستطيع أن تأتمنه على أسرارك أو أن تستخدمه لنقل ما تريد لمن تريد". سكت ناصر وفهم الرسالة ولم يقل شيئاً، وحين اجتمع الصحفيان السوريان مساء بأكرم الحوراني سألاه عن السبب فقال: لا أعرف، ولكن لابد أن الأجهزة السوفيتية تمتلك من المعلومات الخاصة عن علاقات هيكل ما جعلها تتخذ هذا القرار. وكانت تلك الواقعة مثار حديث الوفد الصحفي في موسكو وبعد عودته .

كانت رواية أعضاء الوفد العائدين أقرب إلى المنطق من رواية أخرى تداولها المهتمون بشأن هيكل في مصر فيما بعد، تقول "أثناء زيارة عبد الناصر للاتحاد السوفيتى قال خروتشوف موجها حديثه إلى هيكل: الآن وقد زرت الاتحاد السوفيتى، واطلعت على ما فيه.. أعتقد أنك كصحفى لابد لك من زيارة الولايات المتحدة فرد عليه هيكل.. أعتقد أن هذا صحيح، وعاد خروتشوف يسأل: ألم تزرها من قبل، فقال هيكل نعم لم أزرها، إلا أن خروشوف قال له: إذا لم تخني الذاكرة يخيل إلى أنك قمت برحلة سريعة إلى أمريكا، عندها قال هيكل لم أزرها نفسها، ولكن كانت رحلة إلى الأمم المتحدة فى نيويورك.. فرد عليه خروتشوف ليذكره بحقيقة أخرى قائلاً له: إذا لم تخني الذاكرة ايضاً كان يوجد مبلغ محترم من المال فى انتظارك، وعندما أنكر هيكل قال له خروتشوف: سأثبت لك ذلك بدليل عملى، وأخرج من درج مكتبه ورقة وقال لهيكل: المبلغ المحترم صرف بموجب شيك رقم كذا بتاريخ كذا على بنك كذا، وكان المبلغ بالتحديد هو 100 ألف دولار، عندها قال هيكل: أنت تقصد المبلغ الذى تقاضيته ثمناً لموضوعات كنت قد بعثت بها لجريدة واشنطن بوست أو نيويورك تايمز، وكنت مراسلاً لأخبار اليوم فى كوريا وقد نشرت هذه المقالات فى حينها، عندها ضيق خروتشوف على هيكل الخناق وقال له: ألا ترى أن الثمن كان مبالغاً فيه بالنسبة لمقالات صحفية، فقال هيكل: لا أعتقد، وعاد خروتشوف ليقول: هذا المبلغ صرف بموجب شيك صادر من المخابرات الأمريكية وليس من الصحيفتين اللتين ذكرتهما، وعندما قال هيكل ماذا تعنى؟ قال له خروتشوف أعني أكثر مما سمعته أذناك، عندئذ خرج هيكل من الحجرة واستقل الطائرة ورجع إلى مصر فى اليوم التالى الذى وصل فيه إلى روسيا"... ظهرت تلك الرواية للمرة الأولى في مجلة الحوادث اللبنانية وكان مصدرها على الأرجح مصطفى أمين في محاولته للرد على تشويه هيكل له، وربما يبدو ذلك واضحا من تركيب تلك الرواية وإضافة بعض "المتبلات الصحفية" لها .

لكن الواضح أن اتهام محمد نجيب لهيكل وتحفظات خروتشوف عليه.. لم تصدر عن حقد أو حسد أو خلاف مثلما يمكن أن تؤول لو صدرت عن منافسين سياسيين لهيكل ضاق صدرهم بقربه من ناصر ونفوذه المترتب على ذلك في الوسط الصحفي، فلماذا لم يدافع الرجل عن نفسه دفاعاً قوياً! وبافتراض أن خصومه لم يكن بيدهم مستندات قوية، كان عليه أن يكون أقوى مما بدا.. الملفت للنظر أيضا، أن هذه التهم التي حبكت ضد هيكل لا تختلف كثيرا عن التهم التي نسجها هو نفسه ضد اثنين من أساتذته في المهنة: علي أمين ومصطفى أمين، والتي كالها أيضا لرؤساء وملوك عرب، وكأن هيكل يداري سوءته القديمة، باتهام الآخرين بنفس تهمته .

مع السادات لم يكن هيكل في حاجة لكي يقدم أوراق اعتماده من أول وجديد في وظيفة الكاهن الذي يبرر القرارات ويمهد لها، وأحيانا ما يوحي بها للفرعون، في البداية سار في ركاب التيار العام داخل دائرة صنع القرار بعد موت عبد الناصر والذي غلب الشرعية، أي استمرار النائب رئيسا، وما إن ظهرت بوادر خلاف واضحة بين السادات ومجموعة علي صبري وشعراوي جمعة وآخرين، انحاز هيكل لمعسكر السادات، ولعب دورا مهما في مساعدته وإبلاغه بما يحاك من وراء ظهره، فقد كان يعرف أن لا حظوظ له معهم إن هم استولوا على السلطة .

انحاز هيكل للسادات رغم تحفظاته الكثيرة عليه والتي لم يفصح عنها هيكل إلا بعد خروج السادات من الدنيا بالكامل لاحقا في كتاب "خريف الغضب".. تحفظات يعني السكوت عن بعضها تواطؤا ضد مصلحة الوطن، من بينها مثلا أن السادات مرتشي.. "حصل على شيك بمبلغ 35 ألف دولار من لاجئ سياسي عربي إلى مصر هو الشيخ المبارك الصباح، وعلم به عبد الناصر وأودعه في ملفات الرئاسة والمخابرات"، ولك أن تتساءل –بافتراض صحة رواية هيكل- كيف لم يعترض على قرار عبد الناصر- حسب روايته هو- تعيين السادات نائبا له قبل سفره إلى المغرب في ديسمبر 1969؟ كيف لا يعترض على تولي شخص مرتشٍ منصب نائب الرئيس! بل وكيف يدعم وبقوة صعوده إلى موقع الرئيس فيما بعد! وكيف برر تأييده لتولي السادات بعد وفاة ناصر؟ !

الكاهن صور للناس خروجه من الأهرام ومن معية السادات فيما بعد باعتباره خلافا على أسلوبه في التفاوض، وتفريطه في مكاسب انتصار أكتوبر، لكن الحقيقة تحتمل وجها آخر، فهيكل شارك في وضع الخطط السياسية والإعلامية التي مهدت ورافقت المعركة العسكرية، بل إنه أكثر من ذلك تولى -حسب روايته- بطلب من السادات كتابة خطاب التوجيه الاستراتيجي الصادر منه إلى القائد العام للقوات المسلحة المصرية بتحديد الهدف من الحرب لتكون حرب تحريك للقضية وليست حرب تحرير لكامل الأرض، وهيكل هو الذي كتب في أواخر مقالاته بالأهرام في فبراير 1974 محللا ما سماه بصياغته الأدبية المراوغة "اللانصر واللاهزيمة"، وأرفقها بخريطة عليها أسهم تشير لحركة القوات المصرية باتجاه شرق القناة واتجاه القوات الإسرائيلية باتجاه غربها، ليدلل على أن حرب 6 أكتوبر لم تكن نصرا ولم تكن هزيمة، ما أثار غضب قيادات القوات المسلحة والمخابرات المصرية وقتها، واضطر السادات إلى أن يسحبه من الأهرام، ويعرض عليه مناصب أخرى، ولم يكن خروج هيكل من الأهرام قطيعة كاملة مع السادات، فقد استمرت العلاقة، وتواصل عمله إلى جواره مستشارا فوق العادة، وكتب بعدها مروجا لإعادة افتتاح قناة السويس في 5 يونيو 1975 ومدافعا عن القرار !

مع مبارك حاول الكاهن التقرب إلى الفرعون، وفي أول لقاء للمعتقلين السياسيين الذين جمعهم السادات معا في 5 سبتمبر 1981 ثم أطلق مبارك سراحهم على دفعات، ندب هيكل نفسه للحديث باسمهم إلى جانب فؤاد سراج الدين، ما أثار حفيظة بعضهم، وعرض تقديم خدماته، لكن مبارك حسب رواية شهود على الواقعة قال ما معناه "أننا في غنى عن خدماتك يا أستاذ هيكل"، وفي مناسبة أخرى بعد سنوات استخدم مبارك تعبيرا "فلاحيا" نادرا في تبرير رفضه التعامل مع هيكل قال "أنا مش عايز هيكل يعمل في دماغي ملوخية ".

في 15 مايو 2011 يكرر التاريخ نفسه أو يكرر هيكل البالغ من العمر ثمانية وثمانين عاما نفسه.. وكأن الكاهن لا يمل من حمل المبخرة والدوران بها في أركان المعبد يهيء العقول لاستقبال أسطورة الوحي الذي ينزل على الفرعون.. بلغة متعالية اكتسبها هيكل من طول إقامته قريبا من سدنة الحكم قال في حوار للأهرام إنه "لا يجد حرجا في تسمية المشير محمد حسين طنطاوي رئيسا للدولة في هذه المرحلة الانتقالية".. وراح يُنظر تنظيرا لغويا صرفا لكي يفرق بين ما يسميه رئيس الدولة ورئيس الجمهورية! وكأن هيكل لا يدرك أن زمن الفراعين قد انتهى، أو أنه يدرك ذلك لكنه يبحث لنفسه ولابنه أحمد عن مخرج من شواهد على تورطه في علاقة بيزنس غير بريئة مع جمال مبارك، تتعلق باستغلال النفوذ والشراكة في مؤسسة نمت بشكل خرافي ليقترب رأسمالها من مستوى 10 مليارات جنيه خلال سبع سنوات (من 2004 إلى 2011 ).

قد يصعب أحيانا تفسير مواقف وسلوك الكاتب الصحفي و"السياسي المخضرم" محمد حسنين هيكل ما لم نضع في الاعتبار احتمالا مهما هو استمرار علاقته القديمة بجهاز المخابرات الأمريكية.. والحقيقة أن الحديث عن تلك العلاقة له أصل موثق، فها هي دراسة عنوانها "الوثائق السرية الأمريكية عن تاريخ مصر قبل الثورة" والمنشورة بجريدة الجمهورية في 21 مايو 1978، تتضمن تقريرا سريا مؤرخا بـ 5 يوليو 1949 يقول إن "محمد حسنين هيكل مراسل مجلة آخر ساعة الأسبوعية قدم تقريرا مطولا للسفارة الأمريكية بالقاهرة عن حقيقة التغيير الوزاري المفاجئ، حيث أكد في هذا التقرير رغبة الملك في التفاوض مع بريطانيا حول إبرام معاهدة جديدة، وأن حسن يوسف رئيس الديوان كان وراء إقناع الملك بهذا التغيير الوزاري المفاجئ.. وأرفق معه صورة من مضبطة رئاسة مجلس الوزراء/ج 3 مايو/يونيو 1949 وجلسة 12 يونيو 1949 ".

وللدكتور فؤاد زكريا – أحد أبرز المفكرين والفلاسفة المصريين- في شهادته عن هيكل ملاحظة شديدة الدقة، التقطها من واقع كتب هيكل نفسه، يتوقف زكريا عند "الصلة الوثيقة بين هيكل وجيمس إيكلبرجر الوزير المفوض بالسفارة الأمريكية في القاهرة، إلى حد أن يتصل به في الساعة 1,20 صباح يوم 27 سبتمبر 1955 ليسأله عما إذا كانت صفقة الأسلحة الروسية قد عقدت بالفعل، فمجرد سؤال مسئول أمريكي لشخص مقرب من الرئيس المصري عن موضوع تحرص الدولة وقتها على أن يظل سرا هو أمر يدعو للاستغراب، والطريف أن هيكل يعقب على ذلك بقوله "ولم أعطه إجابة مباشرة"، دون أن يفصح ماذا كانت إجابته، والأهم أنه لم يحتج على السؤال، ويواصل المسئول الأمريكي إلحاحه قائلا: أرجوك اتصل بالرئيس فورا وانصحه بالانتظار قبل الإقدام على شيء نهائي.. لكي لا يحرق جسوره؟!... ولم تكن المحادثة بعد منتصف الليل إذن مجرد تبليغ رسالة، بل طلب من هيكل ليقنع ناصر بتغيير رأيه، فلماذا طلب المسئول الأمريكي من هيكل بالذات هذا الطلب؟، ويتابع هيكل "حين وصل كيرميت روزفلت في الليلة التالية، أبلغ إيكلبرجر هيكل أن روزفلت سينزل في بيته حرصا على السرية.. واقترح أن أمر عليهم في الصباح لتناول الإفطار والتحدث بصفة غير رسمية قبل لقاء روزفلت بعبد الناصر"، ومعنى ذلك أن هيكل هو أول مصري يتصل به مبعوث المخابرات الأمريكية حول موضوع صفقة الأسلحة الروسية.. ثم تكررت اللقاءات، وعندما تأزمت الأمور ورفض ناصر لقاء روزفلت كان هيكل صاحب الحل الوسط، هو أن يدعو الطرفين على العشاء في بيته في مقابلة "ذات طابع اجتماعي وشخصي ".

وهنا لا بد أن نتساءل ما نوع الأحاديث التي يمكن تبادلها، وما نوع الأرض المشتركة التي يمكن التلاقي عليها بين هيكل وصناع أقذر الانقلابات في المخابرات المركزية ضد رئيس الوزراء الإيراني محمد مصدق في 1953، وما طبيعة العلاقة الحقيقية بين هيكل وهؤلاء !"

رحم الله كل فرعون ورحم كل كاهن، وكفانا شرورهم على مر العصور والأجيال، وبارك لمن يدقق فيما بين السطور ليفهم ما يغمض أحيانا من سلوكهم ومواقفهم .