رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تعليق على التعليق




فى السنوات الأخيرة لاحظت أن «الأمية القانونية» متفشية فى مجتمعاتنا، حتى إن معظم الناس يستمد ثقافته القانونية من الأفلام والمسلسلات، وهذه تعرض أشياء لا علاقة لها بالقانون، لدرجة أننا يمكن أن نعتبره «القانون الفكاهى» الذى نضحك على ما فيه، وفى ذلك العالم السينمائى ستتعرف حتمًا على كائنات متخيلة يقال إنهم قضاة، وأخرى يقال إنهم محامون، وثالثة يقال عنها «محاكم»، ولكنها يقينًا تختلف تمامًا عن القانون الحقيقى.
وكثيرًا ما يستغرقنى الضحك فى مشهد يستدر الدموع عندما أجد القاضى السينمائى يُصدر حكمه بلغة وطريقة ومضمون تنم عن أن الذى يصدر هذا الحكم هو عم مغاورى صاحب المقهى المجاور للمحكمة! وقد يعود ذلك إلى أن كاتب الحوار فى الغالب هو «الواد سعفان» صبى عم مغاورى صاحب المقهى.
ولكن المؤلم على النفس هو أن الأمية القانونية تفشت حتى بين المتخصصين، وقد ظهر ذلك فى كثير من المناقشات الدستورية والقانونية التى شغلت الرأى العام فى الأعوام الأخيرة، حيث كان معظم هذه المناقشات التى يتصدرها من يُقال عنهم «فقهاء» عبارة عن فضيحة مدوية! وسقط أمام عيوننا من شغلوا مواقع قانونية وتشريعية متميزة، حتى باتت سمعة بعض المؤسسات القانونية والتشريعية على خطر عظيم، هؤلاء لا يمكن أن نعذرهم أبدًا، لأنهم لم يكونوا جهلة بقدر ما كانوا صناعًا للجهل وناقلين له، أما الذى قد نجد له بصيصًا من العذر فهو من قال عنه المثل «رجل لا يدرى وهو لا يدرى أنه لا يدرى، ذلك غافل فنبهوه».
ومن الأشياء التى أخذت مجالًا من الشد والجذب والقيل والقال والحوار والجدال مسألة «التعليق على القضايا المتداولة أمام القضاء»، وأظن أن هذا الأمر أثار سابقًا وسيظل يثير معارك كثيرة، خاصة أن المحاكم المصرية منذ سنوات وقع عليها عبء التصدى لقضايا تاريخية.
ولأهمية هذا الموضوع فإننا يجب أن نضع له بهدوء تأصيلًا بسيطًا يضع الأمور فى نصابها، فأنت وأنا وغيرنا لنا الحق فى معرفة أخبار القضايا وما يحدث فيها، إلا إذا أمرت المحكمة بسرية الجلسات وحظر النشر عنها، آنذاك يصبح نشر أى شىء يتعلق بالقضية مخالفًا للقانون مستوجبًا للمساءلة.
أما فى القضايا التى ليس فيها حظر نشر، فإن متابعتها لا شىء فيها، ولكن فى السنوات الأخيرة انحرفت بوصلة الرأى العام فى مصر فأصبح نشر أخبار القضايا بمثابة محاكمة أخرى تتم للمتهم الذى لم يصدر حكمٌ بعد بإدانته، لدرجة أن تسابقت بعض المواقع الإخبارية والصحفية فى نشر أمور كاذبة أو مختلقة يبدو أنها تستهدف التأثير على القضاة الذين يناط بهم الفصل فى الدعاوى المطروحة أمامهم، وهى فى ذلك لم تكن تبتغى الحقيقة، ولكنها بحثت عن المشاهد والقارئ ومنافسات النشر والتوزيع والمشاهدة التى تجلب الإعلانات.
وقد لعبت القنوات الفضائية دورًا كبيرًا فى الترويج لبضاعتها من خلال هذه القضايا، وتسابقت نحو هذه الوجبات الإعلامية الجاهزة، فأدانت المتهمين قبل أن يتم عرضهم على القضاء، وبرَّأت من وجدت أن الرأى العام سيتعاطف معهم، وكانت الكارثة حين استطاعت بعض الصحف نشر جانب من تحقيقات النيابة العامة، فى حين أن نشر هذه التحقيقات هو أمر فى منتهى الخطورة، نظرًا لأن هذه التحقيقات لا يمكن أن يلج إلى مفاهيمها وأدلتها إلا المتخصصون، ومن شأن هذا النشر المبتسر أن يوجه الرأى العام ويحيد به عن الحق، فضلًا عن أن بعض هذه القضايا قد تكون قائمة على أمور خاصة بأسرار الدفاع فى الدولة وهذا النشر معاقب عليه قانونًا.
وإذا كان البعض يتذرع بأنه لا يمكن أن يتأثر القاضى بما ينشر فى الصحف أو يذاع فى القنوات الفضائية فإن هذا الزعم غير صحيح، إذ إن القاضى الذى يجلس فى منصة القضاء هو فى الحقيقة من آحاد الناس، يتأثر ويحب ويكره ويميل، إلا أن نزاهته تغلب عليه فيستقيم حكمه، ولكن ماذا لو تأثر القاضى بما نُشر فى الصحف؟ وماذا لو تعرضت أسرة القاضى ومجتمعه القريب منه للتعاطف مع متهم أو كراهية له، ألن يصل هذا التأثير لوجدان القاضى؟
وحتى لو افترضنا أن القاضى الذى يجلس للحكم فى قضية ما يحمل قلبًا من «جماد» وانفصل عن المجتمع بأسره فأصبح مثل تمثال العدالة معصوب العينين لا يرى، فهل هذا يبرر النشر بصورة تحمل فى طياتها الإدانة أو البراءة؟ قانون العقوبات لا يرى ذلك، ذلك أنه يعاقب على جريمة النشر التى من شأنها أن تؤثر على القضاة أثناء نظر الدعوى، أو احتمالية تأثرهم، ولم يشترط المشرع هنا أن يقع التأثير والتأثر بالفعل.
أما الذى يغفل عنه الجميع هو أن القانون يحظر بشكل كامل نشر التحقيقات والمرافعات والمذكرات فى قضايا الطلاق والتفريق والزنا، ومع ذلك فالصحف فى كل يوم تنشر تفصيلات قضايا الطلاق والزنا، ويوم أن رفعت امرأة قضية على ممثل شاب تتهمه بالزنا وتطلب نسب ابنتها له نشرت الصحف كل تفصيلات التحقيقات وما دار فى غرفة المداولة من مداولات سرية ومرافعات وأذاعت القنوات الفضائية وتحول الأمر إلى سجال لا أخلاقى، وعلى القانون والأخلاق السلام.
والمؤلم هو تلك الفضيحة التى تصيب أى متهم من جراء هذا النشر، ليست فضيحة له وحده ولكن فضيحة لكل أسرته وأهله، وحين تدخل الكاميرات إلى قاعات المحاكم ستخرج المروءة من أبوابها، فها هو السيد فلان الفلانى الذى اتُهم فى قضية آداب فنشرت الصحف اسمه ورسمه وعنوانه وتحولت برامج «التوك شو» إلى بوق يصيب الرجل المسكين فى سمعته بالجرسة والفضيحة، وعبثًا حاول هذا المتهم أن يدارى وجهه عن الكاميرات، ولكن ماذا تفعل المداراة، وفضيحته أصبحت على كل لسان، وحين حكم القضاء ببراءته سكت الكلام وظلت الفضيحة تلاحقه وتلعق وجهه.
وإذا أردنا أن نجرى إحصائية بمن أحيل للمحاكمة وتم التشهير به إعلاميًا ثم نال البراءة بعد أن لاك الناس سمعته فلن نستطيع حصر الحالات، ولكن حُمى النشر والسبق الصحفى قتلا كل برىء.
وإذا كان هناك حق للصحفى فى نشر الأخبار رعاية لحقوق المعرفة التى لا ينبغى منعها فليس هناك من حرج فى ذلك ولكن فى حدود المتابعة الخبرية، أما عن الرأى والميل إلى هذا أو التعاطف مع ذاك فليكتب من أراد الكتابة ولينشر من أراد النشر وليبد رأيه من شاء، فليس هناك حجر على إبداء الرأى، ولكن ينبغى أن يكون هذا بعد صدور الحكم، أما الخط الذى لا يجوز تجاوزه هنا فهو الدخول إلى منطقة المساس بشخص القاضى واتهام ضميره والتعدى على كرامته مهما وصلت درجة اختلافنا مع الحكم، فأنا وأنت ونحن نستطيع أن نصف الحكم بالقصور أو الانحراف عن الصواب ولكننا لا ينبغى أبدًا أن نصف القاضى نفسه بالانحراف إذا ما اتخذ فى حكمه وجهة لا نقره عليها وإلا لوقعنا تحت طائلة العقاب.
فإذا انقلب التعليق وقتئذ من نقد للحكم وتجريح له إلى نقد للقاضى الذى أصدر الحكم فإننا نكون بصدد خروج عن النقد المباح إلى الإخلال بهيبة القاضى وهيبة القضاء وهو الأمر الممنوع من حيث القانون والمستهجن من حيث العرف، إلا أن رفض الحكم ونقده لا يبرران أبدًا الامتناع عن تنفيذ الحكم القضائى، فالممتنع عن تنفيذ الحكم القضائى يرتكب جريمة أخلاقية وجريمة اجتماعية، فضلًا عن أن امتناعه يمثل جريمة قانونية.
وقد مرت على مصر فى الآونة الأخيرة عدة أحداث قضائية وقف فيها الناس بين انتقاد الأحكام وبين رفض تنفيذها، وغالى البعض فهاجم القضاة الذين أصدروا بعض الأحكام التى لم تلق قبولًا منهم، بما يخرج عن نطاق النقد المباح للحكم، ويدخل فى دائرة المساس بشخص القاضى وسمعته والإخلال بهيبة القضاء، وهو الأمر الذى ينبغى أن يبتعد عنه الجميع.