رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المُنبت الذى لا عِلْمًا قطع ولا أدبًا أبقى


«كيف لإنسان فى التاسعة عشرة من عمره يدرك تملك الخرافة من عقول مجتمعه، ويقرر أن يسافر ليتعلم أكثر عن نظرية التطور والاشتراكية والتفكير العلمى المنطقى لينقله إلى مجتمعه...». ذلك السؤال طرحه قارئ تعليقًا على توجهات وفكر المفكر الكبير «سلامة موسى»، وقارئ آخر وجدناه يؤكد «سلامة موسى كان كاتبًا يكتب للبشرية والمستقبل عندما كان هناك كُتاب نظنهم كبارًا يكتبون عن الماضى وعن عظمة صاحب القرار، إبداع خالص وسرد للسيرة الذاتية كما يجب أن تكون.. سلامة موسى كان قادرًا على نقلى إلى عصره بشكل عبقرى، فالكاتب يسرد قصته من خلال أحداث العصر والفترة التى عاشها، وتجارب الآخرين، وصلتها بتجاربه الشخصية، والصراعات والصدامات التى أدّت إلى نموه الفكرى، ونهمه غير الطبيعى للقراءة والمعرفة والعلم...».
كان ذلك بعضًا مما كتبه قراء «سلامة موسى»، أما عباس العقاد الكاتب والمفكر الكبير، فقد وصف فكر وتوجهات وشخص «سلامة موسى» بعبارة «حقًا إنه المُنبت الذى لا عِلْمًا قطع ولا أدبًا أبقى»!.
ووصف رحلة «سلامة موسى» الأدبية والفكرية بقوله «إن سلامة موسى أثبت شيئًا مهمًا، هو أنه غير عربى»، ومهاجمًا متهكمًا «إن العلماء يحسبونه على الأدباء، والأدباء يحسبونه على العلماء؛ لهذا فهو المنبت الذى لا عِلْمًا قطع ولا أدبًا أبقى».. ولم تكف مجلة «الرسالة» عن مهاجمة سلامة موسى إلى حد وصفه بأنه الكاتب الذى يجيد اللاتينية أكثر من العربية، أما إبراهيم عبدالقادر المازنى، فوصفه بأنه دجال ومشعوذ!
قد يكون من بين الأسباب التى دعت إلى مهاجمة المفكر وفكره تبعية أطروحاته إلى تيار حداثى يكاد يركز طموحاته على العمل نحو تغيير البنية الفكرية والثقافية وتجديدها أساسًا للتحديث الشامل، وهذا التيار فى معظمه عصرى فى الفترة التى شهدت ألق وتدفق خطاباته، يرتبط بالمفاهيم والقيم الأساسية للحضارة العصرية. وهو لا يدعو إلى حضارة أخرى، كما تصور مناهضو رسالته، وإنما كانت دعوته تذهب إلى ضرورة الذوبان فى هذه الحضارة العصرية، والتماهى مع منتجاتها والتفاعل الإيجابى مع كل جديد لصالح تنمية الذات والمجتمعات والأوطان، على ألا يكون أمر ذلك التفاعل على حساب خصائصنا الذاتية والقومية.
وهذا التوجه هو ما أكد عليه المفكر «محمود أمين العالم» عندما كتب كثيرًا حول الجهود التنويرية الكبيرة التى قام بها «شبلى شميل» و«فرح أنطون» و«إسماعيل مظهر» و«يعقوب صروف» وغيرهم.
لقد كانت أفكار سلامة موسى- على حد تعبير كامل الشناوى- أشبه بمطرقة.. تقرع الرءوس لتنبهها وتثير اهتمامها، وتنقلها من الخيال إلى الواقع، ومن الوهم إلى العلم، ومن الخرافة إلى الحقيقة.
أيضًا، مارس «سلامة موسى» الاشتباك فى حروب ومنازلات مع أشاوس، ولم يكن له من أغراض وأهداف سوى الدعوة إلى تحقيق طفرات حضارية، وتوفير معطيات تحقيق القدر المأمول من العدالة الاجتماعية، ووضع أسس بناء مجتمع الحرية والديمقراطية والوفرة والاندماج الوطنى النبيل بين الناس، والعمل على نشر وإعمال التفكير العلمى والمبدع بعيدًا عن أهل الدجل من سكان أوطان الخرافة بعقلانية وحرية فكرية والتزام بكل قيم البحث العلمى الأخلاقية.. وهو الذى ما زلنا ننشده ونطالب به حكوماتنا المتعاقبة حتى الآن فى منطقتنا العربية.
ونحن بصدد تطبيق منظومة جديدة فى إطار إصلاح التعليم، والنظر من جديد فى أمر تطوير آليات النظم التربوية، أرى ضرورة إعداد وتقديم مناهج تربوية بعرض سير حياة رموزنا الوطنية فى كل مجالات العطاء الوطنى والفكرى والثقافى والاجتماعى والإنسانى لدعم قيم الانتماء والوطنية والإبداع الفكرى المتجدد والتفكير العلمى والمنهجى.
لقد كانت فكرة ناجحة فى هذا الاتجاه تدريس كتاب «الأيام» وهى المتضمنة السيرة الذاتية لحياة عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين، باعتباره رمزًا إنسانيًا رائعًا للنضال وتجاوز الصعاب وصاحب رؤية وحلم وامتلاك عزيمة لا تلين لتحقيق معالم متكاملة لذلك الحلم وتلك الرؤية للتطبيق وتقديم النموذج الوطنى المتكامل للأجيال التالية