رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

البابا كيرلس السادس.. هبة السماء للأقباط


بعدد جريدة «مصر» الصادر صباح الثلاثاء ١٠ مايو ١٩٦٠، بمناسبة ارتقاء الراهب مينا البراموسى المتوحد باسم البابا كيرلس السادس البطريرك ١١٦، سجل المهندس يوسف سعد، وكيل المجلس الملى العام، كلمة تاريخية وصادقة فيما كان يجول بداخل الأقباط من مشاعر حُب نحو البابا كيرلس السادس، فكان بالنسبة لهم «هبة السماء»، فبعد أن سجل إنجازات ثورة يوليو ١٩٥٢ قال بكلمات رقيقة:
ومن يُمن الطالع أن يتلاقى النصر الوطنى بنصر قبطى، فقد تدخلت العناية الإلهية فى الانتخابات البابوية على نحو لم يسبق له مثيل فى تاريخنا الحديث.
وإنى أقرر اليوم فى إيمان واطمئنان أن قداسة البابا كيرلس السادس هو «المُختار من الله».. وهو «مبعوث العناية الإلهية» لكنيستنا القبطية. ولعل ذلك يبرز واضحًا عندما نعود بالذاكرة إلى أيام الانتخابات، وكيف كان ترتيب الراهب مينا البراموسى المتوحد السادس بين المرشحين الذين وقع عليهم اختيار لجنة الترشيحات، واستقر رأى اللجنة أن تقدم للشعب أسماء الخمسة الأول من المرشحين الذين وقع عليهم الاختيار.
وفى اللحظة الأخيرة، وقبل أن يُغلق باب الطعون بساعات معدودات تقدم طعن ضد المرشح الخامس.. وهو الطعن المُدعم بالأدلة الدامغة والمستندات الرسمية، فلم يسع لجنة الطعون إلا أن تقبله. فأصبح ترتيب الراهب مينا البراموسى المتوحد الخامس من بين المرشحين الذين تُرك للناخبين حق اختيار ثلاثة من بينهم.
وجاء يوم الانتخاب.. وأعلنت النتيجة فكان ترتيب الراهب مينا البراموسى المتوحد الثالث- أى الأخير- من بين المرشحين الذين فازوا بثقة الناخبين لتتم القرعة الهيكلية بينهم. وتدخلت العناية الإلهية فى القرعة، وفاز المرشح الأخير بالمنصب الأول فى الكنيسة القبطية.. وأصبح الراهب العابد الزاهد مينا المتوحد بابا الكرازة المرقسية.
ولعل هذا هو سر التفاف الشعب القبطى حوله على نحو نلمسه فى المهرجانات الشعبية النادرة التى يُقابل بها قداسة البابا فى كل كنيسة يزورها. فالبابا كيرلس السادس ليس من اختيار فرد أو هيئة حتى يكون له أنصار وضده خصوم.. إنما هو المُعين من الله. أى أن قداسته للجميع لأن الجميع أبناء الله. ولا شك أن العناية الإلهية قد اختارت لنا أصلح المرشحين، فها نحن نلمس النهضة الروحية الشاملة التى بعثها فى محيطنا القبطى، فالصلوات صباح مساء.. والزيارات الميمونة تشمل جميع الأنحاء.. والبركة تعُم كل الأبناء.. وجهود البابا منصرفة للتعمير والإنشاء.
والمسألة الإثيوبية التى ضاقت حلقاتها، وكادت أن تقطع فى العهود السابقة، سرعان ما حُلت على خير وجه وأسلمه فى مطلع عهد قداسة البابا كيرلس السادس. فضلًا عن حركة التعمير النموذجية فى عهده السعيد التى شملت كنائسها. فكنائس الزمالك ومصر الجديدة والمعصرة على كورنيش النيل، التى تُعد نماذج للعمارة فى عصرنا الحديث، تمت جميعها فى عهد قداسة البابا كيرلس السادس البطريرك ١١٦.
وفى عهده السعيد خرجت فكرة إنشاء الكلية اللاهوتية على أرض الأنبا رويس إلى حين التنفيذ، وأصبحت حقيقة واقعة، بعد أن كانت حلمًا جميلًا يصعُب تحقيقه. وقد تم البناء ويُنتظر افتتاح هذا المعهد الدينى الكبير فى مطلع العام الدراسى ليؤدى رسالته الكاملة فى إعداد قادتنا الروحيين إعدادًا علميًا روحيًا مثاليًا. وسيتحول المبنى الحالى الذى تشغله الكلية الإكليريكية إلى معاهد للدراسة القبطية والبحوث الاجتماعية، وإحياء حضارة القبط وتسليط الأضواء الساطعة على تاريخهم المجيد.
ولا شك أن التعاون المُثمر بين قداسة البابا والمجلس الملى العام سيحقق للأقباط الكثير.. معالجة المشاكل القائمة ووضع حد للخصومات المتفاقمة، لأن هذه الأمور تشغل بالنا اليوم ونمضى الساعات الطوال فى دراستها فى الجمعية العمومية للمجلس الملى العام ولجانه الفرعية بتوجيه وتأييد قداسة البابا كيرلس السادس.
انتهى ما سجله المهندس يوسف سعد بجريدة «مصر» فى ١٠ مايو ١٩٦٠، وأود هنا أن أسجل ما كتبه الأستاذ حنا يوسف عطا- الشقيق الأكبر للبابا كيرلس السادس فى كتاب «مذكراتى عن حياة البابا كيرلس السادس» فى سنة ١٩٧٢ «أى بعد انتقال البابا كيرلس السادس»، فسجل الحوار الذى دار بين الراهب مينا البراموسى المتوحد والأنبا أثناسيوس قائمقام البطريرك فى انتخابات ١٩٥٩، فقال- مع بعض التعديلات فى الكلمات:
الراهب مينا المتوحد كان بعيدًا عن معترك الانتخابات، ولكن الأنبا أثناسيوس قدم تزكية باسم الراهب مينا المتوحد دون أن يخطره. وانتهى الميعاد، وقُفل باب الترشيح، وطلب القائمقام الراهب مينا المتوحد ليحادثه تليفونيًا، وبادره قائلًا: لماذا لم تقدم تزكية لترشيح نفسك يا أبونا مينا؟ أجابه قائلًا: «يا أبى حفظ الله حياتك، الله يختار الراعى الصالح الذى يرعى شعبه ببر وطهارة قلب»، وهنا قال القائمقام: كان يجب ألا يفوتك هذا الواجب، فأجابه قائلًا: «من أنا الدودة الصغيرة حتى أتطلع لهذه المهمة العظيمة الخطيرة، وأحمل هذه الأمانة العظمى التى تُعطى لمن يختاره الله وليس لمن يشاء أو يبغى»، فقال القائمقام: «لكنى ما زلت أنتظر منك الجواب، لماذا لم تقدم تزكية، وتترك الله يدبر ما يشاء»، فأجابه قائلًا: «يا أبى، آبائى الرهبان كثيرون، وتقدموا بتزكياتهم، وكلهم أهل لهذا المنصب الخطير، أما أنا فتكفينى نعمة الله التى معى»، وهنا قال القائمقام: «يا أبونا مينا.. أنا قدمت تزكية باسمك فى الوقت المناسب»، وهنا قال الراهب مينا: «حفظ الله حياتك يا أبى، رايح يروح فين الصعلوك بين الملوك؟»، فأجابه القائمقام: «الله يرفع الفقير من المزبلة ويُجلسه مع رؤساء شعبه»، فقال الراهب مينا: «دامت حياتكم يا أبى، والرب يدبر».
شدد الراهب مينا على محبيه وعارفى فضل الله، وحذرهم من عمل دعاية له سواء بالنشر أو بعقد اجتماعات، ونزل الجميع على رغبته. وفى يوم الأحد ١٩ أبريل ١٩٥٩ أجريت القُرعة الهيكلية التى أتت بنا بالراهب مينا المتوحد، وهنا دقت أجراس الكاتدرائية المرقسية بالأزبكية دقات الفرح معلنة الاختيار الإلهى، وقد أذيع نبأ الاختيار على جميع محطات الإذاعة المصرية. وأبلغ النبأ للراهب مينا فبكى كثيرًا وهو يصلى، ورفض أن تُدق أجراس كنيسة مار مينا بالزهراء- مصر القديمة، بل طلب الانتظار حتى ينتهى من صلوات القداس. وتوافدت على كنيسة مار مينا «وكان بمثابة دير» جموع الشعب وأساقفة وكهنة الكنائس، فقال وهو خارج من الهيكل لاستقبالهم: «المجد لك يارب. اخترتنى أنا الضعيف لتُظهر قوتك فى ضعفى، من عندك القوة أعنى. لأنى أرتعب من عظمة موهبتك. أنت أمين وعادل لا تترك محبيك. من عندك القوة. من عندك العون». لم تغير البابوية منه شيئًا، فقد لازم كل الطقوس التى كان يقوم بها من يوم أن كان راهبًا، فواظب على رفع صلوات العشية «فى المساء» وباكر «فى الصباح» وإقامة القداسات اليومية، وحمل الأمانة كاملة، وأعانه الله أن يدبر شئون الكنيسة كبيرها وصغيرها، وأحيا الطقوس الكنسية بدقائقها، وتمجد الله فى أعماله وجهاده، فسجل له التاريخ أسمى وأعظم الأعمال. كان عهدًا مباركًا بالحقيقة.