رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حروب سيبرانية



شدَّ انتباه العالم، فى الفترة الأخيرة، نوع جديد، غير تقليدى من الحروب؛ لا تُطلق فيه المدافع، ولا تستهدف فيه الصواريخ المواقع الاستراتيجية للخصم، ولا تُحلق فيه الطائرات فى السماوات المُعادية، لكى تنقض على دفاعاته ومواقعه الحصينة، ولا يتسلل رجال «الكوماندوز» تحت جنح الظلام، لكى يهاجموا مراكزه واستحكاماته المنيعة!
إنها حروب العلم والعقل والذكاء والدهاء البشرى، أعارها الإنسان للآلات الذكية، فضاعف من قدراتها مئات، وربما آلافًا، إن لم يكن ملايين المرات، فأصبح قادرًا على شل إمكانات الخصم، واختراق دفاعات العدو، وتجميد كفاءة أسلحته، أو تدميرها، فلا يعود لها قدرة على الحركة والمواجهة، ويُحدث فيها من الشلل والارتباك ما يكلف أصحابها تكاليف باهظة، قد تفوق كل التكاليف المدفوعة فى الحرب التقليدية الضروس، التى خبرناها فى الحربين العالميتين، وفى حروبنا المحلية مع العدو الإسرائيلى، أو فى الحرب العدوانية الأمريكية على شعب العراق، لسبب أساسى: إن ميادين الحروب مهما اتسعت تظل محصورة فى مساحات محدودة، محكومة بسقف تعداد الجيوش، وقدرات تسليحها، والموارد الاقتصادية لهذه الدولة أو تلك.
أما ما صارت تُطلق عليها «الحروب السيبرانية»، أو «الحروب فوق التقليدية»، فبإمكانها توسيع رقعة الضرر الحادث فى البنية العسكرية والاقتصادية للعدو، إلى ما لا نهاية، حيث يمكنها شل تحركات القوات الحربية، أو توجيه قدراتها النارية إلى اتجاهات خاطئة، ودفع حركة الطيران المدنى والحربى للإرباك والتخبط، وتعطيل الخدمات المدنية فى مجموع البلاد بأسرها، وإيقاف عمل المصانع ووسائل المواصلات والمستشفيات والجامعات وأجهزة الإعلام ووسائل الاتصال التكنولوجى الحديثة، والتدخل لإفساد عمل كل ما يعتمد على الكمبيوتر فى تسييره، بما فيه إمدادات الكهرباء والمياه، وهو أمر يكاد يكون حاكمًا ولازمًا لكل شئون الحياة، فى البلاد المتقدمة والنامية أيضًا!.
ومن المهم أن ندرك أن مجال هذا النوع من الحروب والتفوق فيه، مرهون بالتفوق العلمى والتكنولوجى أساسًا، الذى هو محل احتكار للدول الكبرى والمُتقدمة، مثله مثل كل أمور حياتنا المُعاصرة.
وتكاد الدول المُهيمنة اقتصاديًا وعلميًا؛ كالولايات المتحدة، والصين، وروسيا، وغيرها من الدول المُقاربة لها فى الإمكانات العلمية والتقنية، تحتكر منجزات هذا الفرع من القدرات العسكرية، التى تعتمد اعتمادًا كليًا على امتلاك أسرار مُنجزات العلوم الفائقة الحداثة، كالذكاء الاصطناعى، والإنترنت، وعلوم وصناعات الطيران والفضاء، والروبوتات.. وغيرها، ولذلك نلاحظ أن الاتهامات التى انطلقت فى أعقاب اكتشاف «الغزو السيبرانى» لأكثر من ١١٨ ألف موقع بالغ الحساسية، طالت جميع أوجه الحياة العسكرية والأمنية والمدنية، فى الولايات المتحدة الأمريكية مؤخرًا اتجهت لاتهام روسيا «التى اتهمها الإعلام، ودوائر الرئيس الجديد (بايدن)، والصين التى سارع الرئيس السابق ترامب بتوجيه إصبع الاتهام إليها»!.
وهذا الأمر الجلل يُعيد مُجددًا طرح أهمية الحاجة لبناء منظومة علمية حديثة وقادرة على التفاعل مع آخر مُنجزات العلوم العصرية بتفرُّعاتها العديدة، فالشعوب التى تخفق فى امتلاك هذا المدخل، الرئيسى والوحيد، لهذه النوعية الحديثة من الحروب، محكومٌ عليها بالفشل والهزيمة، فى أى مواجهات قادمة، إن لم يكن مآلها الاستعباد والاندثار!
ومن المهم أن نلفت الانتباه مُجدَّدًا، وأن نُعيد التأكيد أن الدولة الصهيونية العنصرية المُتاخمة لحدودنا، ليست بعيدة عن امتلاك مفاتيح هذا النمط المتقدم من الحروب الحديثة، وهى منذ أن اغتصبت أرض فلسطين حريصة على أن تتسع الفجوة العلمية بين جميع الدول والمجتمعات العربية وبينها، ضمانًا لتفوقها وللاحتفاظ بما احتلته من أراضٍ عربية دون خشيةٍ تهديد، وقد سعت منذ فترة ليست بالقصيرة إلى الاهتمام بهذا التطور المتقدم الحادث فى التكنولوجيا الرفيعة، فامتلكت على سبيل المثال خبرات كبيرة فى المجالات الكمبيوترية فائقة التطور وتطبيقاتها، ومنها تصميم وصناعة الطائرات المُسَيَّرة بلا طيار، وهى أحد أسلحة «الحروب السيبرانية» الجديدة الخطيرة.
ومن هنا، وحتى لا نواجه مستقبلًا صعبًا، وتحديات لا قِبل لشعوبنا العربية باحتمالها، يجب علينا أن نعيد النظر بشكل كلى فى أوضاعنا العلمية ومستوياتنا التقنية، حتى لا يستغل أعداؤنا هذه الفجوة العلمية القائمة، لفرض إرادتهم وتهميش دول المنطقة وحصار حقها المشروع فى الحياة الكريمة!.