رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تسلحوا بالأمل




عام ٢٠٢٠ يوشك على الأفول، يغادرنا غير مأسوف عليه، فقد كان عامًا صعبًا، حمل الأسى والأحزان للملايين من بنى البشر، فى مشارق الأرض ومغاربها. أخذ من بيننا المُقربين والأصدقاء، ففقدنا على حين بغتة بعضًا من أنفسنا وقسمًا من ذواتنا، وما من إنسان فى أرجاء المعمورة إلا وقد خسر قريبًا أو حبيبًا، وما من أحد إلا وعاصر ألم الفقد، وعذاب أن تهدَّد حياتك من عدو لا تراه، وتجهل شكله ومن أين تأتى ضربته المُباغتة القاتلة.
وكل ظاهرة إنسانية لها جانبها السلبى ولها وجهها الإيجابى، والمحن والرزايا التى تلم بنا لا يجب أن تمر مرور الكرام فلا نتعلم من دروسها، أو نستفيد من نتائجها. وهناك فى الصدارة دروس ثلاثة، لا بد من استيعابها لمن أراد أن يحيا، وأن يخرج من هذه المحنة بفائدة باقية، تنفعه فى الأيام المقبلة.
الدرس الأول: أن الطبيعة بهذه الهجمة القاسية، والرد العنيف، أرادت أن تُعلِّمنا أننا تجاوزنا حدود العقل فى التغوُّل عليها، وتخطينا واجب الاعتدال فى التعامل مع قواعدها، وتبجحنا بأكثر مما هو مسموح فى الاعتداء على حُرماتها وتوازناتها، فأصبحنا نحرق ونقطع، ونُغيِّر ونُبدِّل، ونُقدِّم ونُؤخِّر، مُتعالين على قوانينها، مُتجرئين على توازناتها، وأبرز مثال على ذلك هو الموقف من قضايا المناخ، التى تخطت كوارثها المستوى المسموح، بفعل عوادم نتيجة التصنيع الهائل، والحجم الضخم من الانبعاثات الضارة، وتمثلت الطامة الكبرى بخروج أمريكا ترامب من الاتفاقية المنظمة لهذا الأمر، وامتناعها عن تحمل مسئولياتها، وهى الأعظم مع الصين، والدول الرأسمالية الصناعية الكبرى مسئولة عن هذا الأمر، فكان ما كان، وكان للطبيعة أن تقول: كفى! وقد قالت.
أما الدرس الثانى فهو يقول لنا إن مصير الكوكب الأرضى رهين بالوعى بوحدة المصير الإنسانى، وأن أحدًا، كان من كان، غنيًا كان أو فقيرًا، مُتقدمًا أو مُتأخرًا، لا يملك الحق فى التصرُّف المنفصل عن مجمل النوع الإنسانى، لأن عوائد أفعاله تتحملها البشرية جمعاء.
لننظر على سبيل المثال لوباء «كوفيد- ١٩». لقد انطلقت الشرارة من مدينة ووهان الصينية، لكنها انتشرت كما تنتشر النار فى الهشيم، إلى كل بقاع المعمورة وفى وقت مُتقارب، وكان من غرائب الأمور أن أكثر المتضررين من هجمتها هو أكثر دول العالم قوةً وثروةً وغرورًا وعجرفةً: الولايات المتحدة الأمريكية «الترامبية».
والدرس الثالث: نستخلصه من حقيقة أن الصين التى كانت مهد الفيروس، كانت هى الأقدر على سرعة السيطرة على جموحه، ولجم اندفاعاته القاتلة، وهى فى هذا السياق، لم تلجأ إلى «الفهلوة» أو الادعاء أو المُكابرة بل إلى العلم المُتقدم، والمعرفة النوعية المُتطورة.
لقد استخدمت الصين، ورأينا جميعًا ملامح هذا الاستخدام على مواقع التواصل الاجتماعى، جماع الثورة العلمية والمعرفية، بالغة الحداثة، فى التعامل الآمن مع الجائحة، فرأيناها تلجأ إلى الطائرات المسيرة دون طيار، والسيارات المقودة بلا بشر، لتوصيل الأدوية والطعام للمصابين، وتستخدم قدرات الذكاء الاصطناعى الفائقة، والتطور التقنى فى التعرُّف على مكونات «العدو المجهول»، وحصار آثاره المأساوية، وفى استكشاف مجاهله، وبسرعة وكفاءة، حتى تتوصل إلى اللقاح الناجح، وهو ما حدث فى زمن قياسى، ساعدها فى ذلك انضباط مثالى لمئات الملايين من المواطنين، وإطاعة واعية وحازمة لتعليمات الجهات الطبيّة المسئولة.
يقول المثل المشهور: «رُبَّ ضارة نافعة»، وهذا صحيح. لقد دفعْنا جميعًا فى كل أنحاء أرضنا الحزينة ثمنًا باهظًا فى مواجهة هذا الوباء اللعين، ويبدو أننا سنظل لفترة ندفع، حتى تكتمل دورته وتنتهى هجمته، وتفيق البشرية من آثاره الخطيرة، وتلتفت إلى علاج نتائجه بعيدة المدى، وفى مقدمتها الخسائر المادية الهائلة التى ضربت اقتصادات العالم كله، ولم تفلت منها دولة كبيرة كانت أم صغيرة.
ورغم كل ذلك، فلا بد أن نستمر فى التماسك والسيطرة على شعورنا بالحزن والقلق من المستقبل، خصوصًا وأننا نواجه الدورة الجديدة للفيروس وتحولاته الخطيرة المجهولة.
مطلوب منا جميعًا أقصى درجات الحرص والحذر، والالتزام الطوعى الواعى والكامل بالتعليمات الوقائية، والتعاون مع الجهات الطبية المسئولة، حتى نُقلل فرص الإصابة وحجم المخاطر. ولا يقل أهمية مما تقدَّم، أن نظل مُتفائلين واثقين من أن الأمر سينتهى بإذن الله، كما انتهت أوبئة ومجاعات وكوارث وجوائح كُبرى من قبل. فمن المحال دوام الحال، وكل أمر وله نهاية. رغم كل المحن والآلام، والأحزان والأرزاء، تسلَّحوا أيها الأصدقاء بالأمل، واذكروا معنا وعد «بابلو نيرودا» شاعر تشيلى الأكبر: «إن أجمل الأيام لم يأت بعد».
تسلَّحوا بالأمل! فالشمس ستشرق مهما لفَّتنا الظلمات، ولم تخلف وعدها يومًا.