رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أضواء على جريمة اغتيال



بعملية استخباراتية ناجحة، مُوجعة لإيران، ومؤثرة بدرجة أو بأخرى على مسيرة برنامجها النووى، وجَّهت المخابرات الإسرائيلية ضربة للمشروع الذى لم تُخف «تل أبيب» أبدًا عزمها على تقويض أركانه، وهدم بنيانه، باغتيالها عالم الذرة «فخرى زاده»، الذى يُشبهه البعض بـ«روبرت أوبنهايمر» أبو القنبلة الذرية الأمريكية، و«عبدالقدير خان»، أبو البرنامج النووى الباكستانى.
وعملية الاغتيال هذه ليست بغريبة على الدولة الصهيونية، ولا على سلوكها الدموى، فقد سبقت وحاولت اغتيال العلماء الألمان العاملين فى مشروع الصواريخ المصرية، واغتالت العالمة المصرية «سميرة موسى»، والعالم النووى المصرى «يحيى المشد»، وهددت على لسان السياسى الإسرائيلى المجرم «أفيجدور ليبرمان» بضرب السد العالى بالقنبلة النووية، لإغراق دلتا النيل، بمَن وما عليها!، وقصفت المفاعل النووى العراقى عام ١٩٨١، ودمَّرت ما اشتبهت فى كونه مفاعلًا نوويًا بمدينة «دير الزور» السورية عام ٢٠٠٧، وشنّت «هجمة سيبرانية» فى شهر يونيو الماضى، بواسطة فيروس من نوع «ستاكسنت»، على مختبر يطور العلماء فيه أجهزة الطرد المركزى فى مفاعل «نطز» الإيرانى، أدى إلى وقوع انفجار كبير وحدوث دمار ملحوظ.
وبالنسبة لإيران، فلم تكن هذه العملية، التى تمت داخل أراضيها وفى وضح النهار، هى الأولى من نوعها، فقد سبق وأن اغتالت الأجهزة الاستخباراتية الإسرائيلية علماء مهمين عاملين فى المشروع النووى الإيرانى، منهم: «مسعود مُحمدى»، و«مجيد شهريارى»، و«داريوش رضائى نجاد» و«مصطفى أحمدى روشن»، فى طهران، خلال عامى ٢٠١٠- ٢٠١٢.
وقد أعلن القادة الصهاينة، بكل صفاقة، وفى مقدمتهم «موشيه يعلون»، وزير الدفاع الإسرائيلى الأسبق «٢٠١٣ - ٢٠١٦»، عن أن: «إسرائيل لا يمكن أن تقبل تحت أى ظرف من الظروف أن تمتلك إيران سلاحًا نوويًا»، و«فى نهاية المطاف هذا واضح تمامًا، بطريقة أو بأخرى، يجب وقف برنامج إيران النووى»، مُضيفًا أن «إسرائيل ستستخدم كامل طاقتها لمنع إيران من إنتاج الأسلحة النووية».
وقد هلل البعض، من بنى جلدتنا، وبنوع من التشفى أو حتى الفرح والشماتة، لمقتل العالم النووى الإيرانى، بعد أن وقر فى مفاهيمهم أن إيران هى العدو وليس مغتصب الأرض الفلسطينية والعربية، والذى لم تترك قواته الهمجية بقعة من العالم العربى، إلا وعاثت فيه تخريبًا وفسادًا، وتدميرًا وخرابًا، ودون أن ينظروا إلى خطورة انفراد «البلطجى» الإسرائيلى بالمنطقة وأخذها رهينة، متجاهلين فحوى الحكمة الذائعة: «قُتلت يوم قُتل الثور الأحمر»، وغاضين البصر عن الحقيقة المُفجعة، والتى تقول إن إيران لا تملك السلاح النووى الفتّاك، وهى كانت قد وقّعت اتفاقًا، نقضه الرئيس الأمريكى «دونالد ترامب»، وقضى بعدم إنتاجه، فيما يملك «الصديق الإسرائيلى»، المُهَرْوَل إليه دون داعٍ أو منطق، أكثر من مائتى رأس نووى جاهز للإطلاق والإجهاز على مَن يُريد بين غمضة عين وانتباهتها.
إن الهدف الأساسى لهذا النوع من الضربات النوعية واضح لكل ذى عينين: إجهاض أى، وكل محاولة لكسر احتكار إسرائيل لا للرادع النووى وحسب، وإنما، حتى للمعرفة النووية بحد ذاتها، وهو وضع بالغ الخطورة، يؤثر تأثيرًا مُباشرًا فى صياغة مستقبل المنطقة، وبما يضعها داخل دائرة الهيمنة الإسرائيلية المُطلقة، ويُخضعها- بصورة كاملة- للمشاريع الاستعمارية المُعلنة، ولمُخططات إعادة رسم خرائطها لخدمة مصالح أمريكا والغرب.
فاحتكار الدولة الصهيونية للسلاح النووى، والإجهاض المنهجى لأى إمكانية، مهما كانت واهية، لامتلاك طرف آخر فى المنطقة لمفاتيح التكنولوجيا النووية، حتى لو كانت لأغراض سلمية، يؤدى، كما يقول الخبراء، إلى تحقيق ثلاث مهام مُتداخلة: نفسية وسياسية وعسكرية، وهذا الاحتكار يمثل عامل إكراه استراتيجى، يُحبط كل محاولة لبناء توازن مقبول للقوى فى المنطقة، ويُعمِّق الاختلال العميق القائم لصالح الدولة الصهيونية، ويُزين لإسرائيل الاستمرار فى إلحاق الأذى والمهانة بشعوب المنطقة، وفرض الإرادة والاستقواء على سُكانها، وهو أمر سيدفع حتمًا- ولو بعد أجيال- إلى انفجارات هائلة لا يُمكن التنبؤ بمداها.
والأخطر أن هذا الانفراد بعناصر المنعة وأسباب القوة، والذى تَدَعَّم، مؤخرًا، بالهرولة العربية «للتطبيع» مع دولة الإرهاب الصهيونى، فى جانب مهم من جوانبه، إنما يضر ضررًا جسيمًا ومُباشرًا بمصر ومصالحها الاستراتيجية، فالعديد من المشروعات التى أُعلنت بين الجانبين النفطى والإسرائيلى، على سبيل المثال، تؤثر بالسلب على قناة السويس وأهميتها، وعلى الدور الريادى التاريخى لمصر فى منطقتها، وتخدم أهداف مشروع «شمعون بيريز»، السياسى الصهيونى البارز، والتى أذاعها فى كتابه «الشرق الأوسط الجديد»، حيث يُخضع المنطقة بأكملها للإرادة الصهيونية عن طريق اجتماع رأس المال الخليجى، والأيدى العاملة المصرية، والعقل والقيادة الصهيونية.
والأدهى أن الذين لا ينظرون إلّا تحت أقدامهم، يتجاهلون أن كل ما تقدَّم، إنما يخدم فى الأساس سعى الدولة الصهيونية المارقة إلى تحقيق مسعاها الدائم بتكوين «إسرائيل الكبرى»، على أنقاض دولنا وشعوبنا، والتى تمتد حدودها «من الفرات إلى النيل»!.