رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لو لم يحدث ذلك

سامر
سامر

- لو لم تُجْرَ ضربات الترجيح بعدما تعادل الفريقان فى المباراة النهائية لكأس العالم ما تأخرت فى الخروج من منزلى، وكنت لحقت بالحافلة فى موعدها، ولم أنتظر التالية تحت مظلة الموقف، فقد كان المطر غزيرًا مساء ذلك اليوم.
قال سعيد دون أن يحوّل بصره عن شاشة التليفزيون التى تعرض مباراة بكرة القدم:
- أتريد القول إن ضربات الترجيح جعلتك تفوز برؤيتى؟
قالت لمجرد المشاكسة، وهى عادة قديمة لم تتخل عنها، رغم أنها سببت لها الكثير من المشاكل منذ طفولتها مع أمها التى كانت لا تتورع عن ضربها بأقرب شىء تطاله يدها حين تغضب منها، ولكنها لم تعد بتلك الحدة منذ بدأت تعانى من التهابات المفاصل، وتتناول حبوب الدواء فى موعدها دون إبطاء.
انفجر سعيد ضاحكًا عند سماع تعليق لم يدهشه، ولكنه وجده مناسبًا كى يتابع إدارة عجلة الأفكار التى يستمتع بتقليبها فى مخيلته، فتابع حديثه بشغف:
- ليس بالضرورة.. فلو لم يتصل بى أخى أبومحمود ويدعُنى للغداء ما غادرت البيت يومها، وربما بقيت فى منزلى أقرأ الروايات البوليسية؛ فأنت تعرفين جيدًا أننى كنت وما زلت مغرمًا بهذا النوع من الروايات.
- شراهتك للطعام وراء أفعالك كلّها.
قالت نجاة وهى تواصل حياكة كنزة صوفية لطفل فى السابعة من عمره.. وأتاها رد سعيد وهو يطفئ التليفزيون، ويشير لها بأن تتبعه ليجلسا معًا فى فسحة الدار الصغيرة:
- أنتِ تعرفين جيدًا أن شهيتى للطعام تكونت بعد زواجنا لأنكِ ماهرة فى الطبخ، لقد كنتُ نحيلًا، ورياضيًا ماهرًا فى فريق الجامعة بكرة السلة.. ماذا ستطبخين اليوم؟
- أرز بالبازلاء.
- طبق لذيذ حقًا.
قال سعيد وهو يربت على بطنه المترهل، ثم أردف وهو يمرُّ بسبابته أسفل ذقنه غير الحليقة على غير العادة:
- سبب تلبيتى دعوة أبى محمود أن ابنته سلمى نجحت بتفوق فى المدرسة، وكان يجب علىَّ شراء هدية، أى لو كانت سلمى من الكُسالى لم تصطحبينى لأشترى لها دمية تناسبها من المتجر المجاور بعدما التهمنا علبة البسكويت ونحن ننتظر الحافلة التى لم تأتِ.
وضعت نجاة على المنضدة صينية عليها إبريق من الماء الساخن، وعلبة من الأعشاب الطبية، وكأسان فارغتان، وأخذت تعد الشراب باهتمام وهى تنصت لزوجها، كأنها تسمع حديثه هذا للمرة الأولى:
- أتذكرين.. رغم أنه لقاؤنا الأول فقد تحدثنا كأصدقاء قدامى، وقد أخبرتنى يومها بأن كعب حذائك انكسر وأنتِ تنزلين الدرج بسرعة لتلتقى بخطيبكِ.. لم أعد أذكر اسمه.. و..
- وسيم.
قاطعته.. فنظر إليها بحنق، وصاح بوجهها:
- دائمًا تشكين من النسيان، فلماذا لم تنسِ اسم هذا الرجل حتى الآن؟!
- الأسماء لا تُنسى.
قالت نجاة مدارية ارتباكها، وتشاغلت بالبحث فى كيس بمحاذاتها عن كرات الصوف الملون، بينما تابع الزوج حديثه وهو ينظر إلى الجوارب السميكة التى لا تفارق قدميها، وفستانها الذى لم تستبدله منذ سنوات، والوشاح التى حاكته بنفسها ملقى على كتفيها، وشعرها الشائب القصير:
- يومها غيرت الحذاء، ثم غيّرت الفستان كى يتناسب لونه مع لون الحذاء، ثم أجريتِ تعديلًا على زينتكِ، ولأن ذلكَ استغرق وقتًا لا بأس به لم ينتظركِ ذلك الخطيب فى أسفل البناء، وقفل عائدًا إلى عمله، واتهمكِ بأنكِ لا تحترمينه، فتشاجرتما.
وأردف وهو يلتقط بأنامله المعروقة بعض زهور الياسمين من شجيرة تتسلق السور الواطئ للمنزل:
- كنت مترددة فى فسخ الخطبة، وقد شجعتكِ على عدم الرضوخ لرجل لا يحترم العناية بمظهركِ.
- كل ما جرى كان لصالحكَ، أنتَ رجل محظوظ حقًا.
قاطعته وهى تتناول الزهور البيضاء من يده، وأوشكَ أن يمازحها مشاكسًا: «بل لسوء حظى».. ولكنه أحجم عندما رأى أن عينيها الواسعتين ما زالتا تحتفظان بالكثير من الود. ورغم ذلك تحدث دون حرج عن المرأة الأخرى التى كان يريد الزواج منها، ولكن نجاة لم تنتبه لحديثه المسهب، فقد كانت تتذكر بصعوبة حديث صديقة قديمة التقتها البارحة عند بائع الخضار عن مصائر الصديقات والجيران، ولم تفلح إلا فى التذكر أن وسيمًا تزوج ولكنه لم ينجب، وأنه توفى العام الفائت بسرطان الرئة، فشكرت الله فى سرها على حسن التدبير، ثم قالت بصوت هامس، كأنها تحدث نفسها:
- كنا نسكن فى بناء واحد، وقد التقينا مرارًا على درج البناء من قبل.
وتأملتْ فى المكان حولها، كأنها تريد التأكد من أن كل ما جال فى ذهنها منذ قليل ليس إلا ذكريات عابرة، وهذا ما جعل سعيدًا يطوح بيديه أمام وجهه كأنه يبعد أفكارًا غير مُرحب بها تعابثه، فعاد إلى حديثه ليؤكد بثقة:
- أجل.. ولكن شرارة الحب تولدت فى موقف الحافلات ذلك اليوم، وأذكر جيدًا أنه كان يومًا غير عادى، فقد عمّت فيه الإضرابات، لهذا لم تنتظم رحلات الحافلات، أى لو جرت تلك الأحداث فى غير ذلك اليوم لم نكن الآن نجلس معًا.
وضحك بصفاء، وأردف وهو ينظر إلى وجهها ذى الملامح الراضية التى علته ابتسامة صغيرة:
- كانت معى علبة من البسكويت اشتريتها لسلمى، ولكننى فتحتها من أجلكِ، وأكلناها كلها، لا شك فى أن البسكويت أضفى جوًا لطيفًا وساعدنا فى التعبير عن مشاعرنا.
ثم سأل سعيد زوجته إذا كانت تحتفظ فى الخزانة ببعض البسكويت، فنفت وجوده، وأخبرته بأنه يجب أن يشترى شيئًا منه، إضافة إلى بعض الحلويات والعصائر، فغدًا سيحتفلون بعيد ميلاد حفيدهم سوسو.. فهز رأسه موافقًا على اقتراحاتها، وتناول من على منضدة صغيرة قربه صحيفة صادرة منذ أسبوع، وأخذ يدون عليها ما يجب شراؤه للاحتفال بعيد الميلاد، ووجدت انشغاله عنها فرصة مناسبة للثرثرة فقالتْ:
- منذ ساعات وأنتَ تتحدث عن أشياء عابرة مضت وانقضت منذ زمن بعيد، ولم يعد لاستعادتها أى معنى.
لم يجد مبررًا مقنعًا لاعتراضها، فتابع حديثه دون فتور، وكأنه يُقرر حقائق عظيمة غير قابلة للنقاش:
- كنتُ أريد القول إنه لو لم يحدث ما حدث، فربما تأخر زفافنا، ولو لم تلد زوجة ابنى قبل الموعد المحدد بعملية قيصرية لكنا احتفلنا بعيد ميلاد سوسو فى يوم آخر.
نظرت نجاة بدهشة إلى زوجها المسترخى على كرسى الخيزران، فلم تتوقع أن تسمع منه ما سمعت، رغم أنها اعتادت أفكاره الغريبة منذ زمن بعيد، ولم تتحدث إلا بعدما أفرغت ثمالة المشروب الدافئ فى فمها:
- الشمس مشرقة هذا اليوم، ونستطيع الاحتفال بعيد ميلاد حفيدنا فى حديقة منزلنا.. سأتصل بعد قليل بوليد وزوجته كى يأتيا مساء إلى هنا ونحتفل معًا.
- أجل..
قال مؤكدًا اقتراحها، ثم أردف:
- لم يكن الاحتفال بعيد ميلاد حفيدتنا رباب العام الماضى بالسيئ، فقد كان البرق الذى أضاء الحجرة ونحن نطفئ الشموع شيئًا جميلًا.
وأضاف وهو يسكب من جديد منقوع الأعشاب الذى برد فى الكأسين الفارغتين:
- تخيلى لو أنّنا لم نعثر على شموع يومها.
- يكفى أرجوك.. لم أعد أستطيع احتمال فرضياتكَ أكثر من ذلك.
قالتْ بملل، وأردفتْ وهى تتناول عكازها:
- إننى جائعة.. هل تأكل معى؟
- أجل.
أجابها باقتضاب وهو يمسح بباطن كفه على صلعته الدائرية التى يحفها الشعر الأبيض، وقد خطرت له أفكار كثيرة حتى إنها أدهشته هو نفسه.. كان يتساءل فى نفسه وهو يتأمل غيمة بيضاء كبيرة مزقتها الريح الهائجة ببطء إلى قطع صغيرة تتلاشى فى السماء كقطع السكر الذائبة فى كوب الحليب:
- لو أن والده لم يلتق أمه ذات يوم يجهله لم يكن هو يفكر الآن فى هذه الأشياء كلها!
كانت نجاة تضع مقلاة فيها زيت على الغاز وهى لا تنى تكرر السؤال ذاته كل صباح:
- هل أطهو لكَ بيضًا مقليًا؟
لم تَسمع أجابته المتوقعة، فرفعت صوتها وهى تكسر البيض:
- هل ترغب بتناول البصل الأخضر؟
ثم أردفتْ وهى تضع حزمة البصل الأخضر تحت صنبور الماء لتغسله من بقايا التراب العالق به:
- اشتريته البارحة.. وعند البائع التقيت صديقتى.. لقد نسيت اسمها.. لا شك فى أنكَ تتذكرها، إنها ذات الشعر القصير الأسود التى كنت لا تكف عن السخرية منها فى غيابها، كانت تسكن فى بنايتنا فى الطابق الرابع، هل تذكرتها؟... لقد أخبرتنى بأن..
ثم صاحت فجأة:
- لم تشتر هدية لحفيدنا حتى الآن، يجب أن تذهب بعد الإفطار إلى السوق لشراء قطار، فسوسو يحب القطارات كثيرًا، لقد روى لى فى يوم الجمعة الفائتة أن..
لم تكن نجاة تدرى أنها كانتْ تتحدث إلى نفسها، لأن أحدًا لم يكن ينصت إليها آنذاك. فدون موعد.. توقف الكرسى الهزاز الذى اشتراه سعيد من بائع جوال منذ ربع قرن عن إصدار أى صوت، رغم أن سعيدًا لم ينهض عن ذلك الكرسى!