رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الذكورة السامة «3»



يعيش الرجل فى إطار تصور الآخرين عنه، فيعيش حالة من التظاهر والادعاء، حالة استعراضية تهتم بالخارج، بما يظهر منه وليس بحقيقته، أو ما بداخله، فيتظاهر بكونه الرجل القوى عندما يشعر بالضعف، يتظاهر بالثقة عندما يشعر بعدم الأمان، يتظاهر بالقسوة عندما يتألم.. ولا يكتفى فقط بإنكار حقيقة مشاعره، ولكنه يسفه ويزدرى هذه المشاعر، ويجيد فقط التعبير عن الغضب.
الرجل الغاضب، الذى على الجميع أن يتقوا غضبه ويأخذوا منه ساترًا، ولا يحاولون إثارة هذا الغضب، هو النموذج الذى تم تمريره على مدى قرون فى الحكايات الشعبية والمرويات التراثية، وجاءت وسائل الإعلام فى العصر الحديث لتعمق وتؤكد الصورة.
الرجل الفظ العدوانى، المحتال، المستهتر، عارى الصدر، صاحب النفوذ.. هو النموذج الجذاب الذى ظلت تقدمه وسائل الإعلام فى السينما والتليفزيون عن الرجل.
ورغم هذه الصورة النمطية فإن الدراسات الإعلامية الخاصة بالصورة اهتمت كثيرًا بدراسة صورة المرأة فى الإعلام، لكنها أغفلت موضوع بحث الصورة التى تقدمها البرامج والدراما التليفزيونية والأفلام السينمائية عن الرجل. وكيف أثرت فى تكوين صورة خادعة ومضللة لمفاهيم الرجولة.. وربما يكون هذا الإغفال جزءًا من الصورة الكلية عن الذكور، غير القابلة للفحص والتمحيص، فى مقابل الإناث الموضوعات دائمًا على طاولة التشريح.
الرجال محصنون من الفحص، من التدقيق.. الرجال مُسلَّمات، لذا لا يدور داخل معظم الرجال أى شك صراع عن حقيقتهم، إنهم فى نعيم الجهل، فردوس اللاوعى، ويجهلون الفاتورة التى يدفعونها ثمنًا لهذه الصورة المفتعلة، ثمنًا للتمثيل الدائم، فنجدهم يسقطون فى أتفه النزوات «أكان لا بد وأن تضىء النور يا لى لى».
إنه أمر مجهد أن تكون ممثلًا طوال الوقت، إنه أمر متعب أن تكون رجلًا.
مساكين الرجال المصابون بأمراض الذكورة السامة الذين تتسمم أرواحهم، وتتقيح جروحهم، فى صمت وتواطؤ، لأنهم يتوهمون أن ما يحصلون عليه من مكاسب بطريركية أكبر وأهم.
يحتاج الرجال للاعتراف بسخافة الدور المرسوم لهم وثقله، وأن يطلبوا المساعدة لكى يكونوا بشرًا طيبين، يحتاج الرجال إلى صبر النساء وطول بالهن حتى يعرفوا مناطق إنسانيتهم المطمورة، وأن يعتمدوا على قوتهم الروحية والنفسية.. ويتحول الصراع الذى يعيشه الرجل طوال الوقت لإحكام السيطرة على العالم وسيادة منطقه السلطوى إلى تحالف لصالح البشر.
فكما تقول الحكمة: «عالم الإنسانية يحوزُ على جناحين، الذكر والأنثى، فطالما أن هذين الجناحين غير متكافئين فى القوة، فالطيرُ لن يطير».
يحتاجون لطرد الأرواح الشريرة، استخراج طرق التفكير القديمة المريضة، والرد عليها، يحتاجون لمناقشة وإعادة فحص ما نظن أنه بديهيات، مثل مقولة إن النساء أضعف من الرجال، رغم أن العلم يقول إن جسد المرأة يتسم بمرونته وقدرته على الصمود أكثر من الرجل، والأهم أن النساء أطول عمرًا من الرجال.. فتحت جلد النساء يتدفق مصدر قوة لم يفهمه العلم حتى الآن بشكلٍ تام. فقدرة النساء على النجاة والصمود أكبر من الرجال، والأهم من ذلك هو أن النساء ولدن بهذه القدرة.
لا توجد ذكورة كاملة أو أنوثة كاملة، لكن المجتمع لا يشجع الذكور على التعبير عن صفاتهم الأنثوية، ويرفض من النساء أيضًا التعبير عن صفاتهم الذكورية، وهذا ضد الطبيعة والإنسانية.. يحتاج الرجال إلى إحداث توازن فى حياتهم وإعادة النظر فى أدوارهم الموروثة، صحيح أنها تعطيهم حق السيطرة والتحكم والسلطة، لكن الثمن هو خواؤهم الروحى، وفقدانهم لإنسانيتهم.
يتحدث الرجال فى ملتقياتهم عن الرياضة، السياسة، العمل، لكنهم لا يتحدثون حول صراعاتهم الداخلية، عن خوفهم من الفشل، عن افتقادهم الأمان.
ليس مطلوبًا من النساء أو الرجال أن يكونوا شخصيات رخوة أو هشة، لكن لا بد من الوقوف أمام الذكورة السامة التى تعمى الذكور وتجعلهم يغمطون الناس.
علينا لكى نقضى على هذه الدورة الجهنمية من الأمية العاطفية والتفكير الجماعى، الذى يسمح للذكور بالاستمرار فى إيذاء الآخرين، وإيذاء أنفسهم كذلك، أن ندعم الأجيال الناشئة كى يطوروا طرقًا جديدة لكيفية ظهورهم فى العالم.
علينا أن نشجع أولادنا على تجربة المشاعر بطريقة آمنة، أن يدركوا ألا أحد يمتلك كل الإجابات، أن يفهموا أن كونك رجلًا لا يعنى أن تكون كاريكاتيرًا للسلطة الذكورية، وأن الصفات التى تُوصف عادةً بالضعف إنما هى أجزاء من الرجل السليم بالكامل.
كيف ننشئ أولادنا ونعلمهم أنهم لكى يكونوا رجالًا ليس ضروريًا أن يكونوا مسيطرين، وأن وجود المشاعر والأحاسيس ليس عيبًا، وألا يقللوا من قيمة المرأة، وأن مساواة الرجل والمرأة لا تعنى أى انتقاص من الرجل، ولكن هى إعادة للتوازن وتحقيق للعدالة، وأن المرأة ليست هى التى تحتاج فقط للتحرير، لكن الرجال يحتاجون لمن يساعدهم كى يفهموا حقيقة أنفسهم ويضعوا عن كاهلهم أثقال الأدوار المرسومة لهم، ويتعاملوا فى محيطهم كأفراد، وليسوا مجرد قطيع مسلوب الإرادة خلف تراكمات صندوق الرجولة، وأن تحرير الرجل مرتبط بتحرير المرأة.
ما الذى سيحدث إذا لم يلتزم الأولاد بما فى صندوق الرجولة؟
بالتأكيد سيغدون أحرارًا.