رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى ذكرى رحيل عاشق عظيم




كانت قبائل العرب فى سالف الأزمنة، إذا ما «وُلد» لها شاعر، أى برزَ من بينها من حباه الله بملكة القريض، ومنحه موهبة قول الشعر، بنظم الكلمات وربطها بالأحاسيس والإيقاع، أقاموا الأفراح والليالى الملاح، واحتفوا بذلك أيما احتفال، فقد كان الشاعر فى عُرفهم هو صوت القبيلة، ومصدر فخرها، وهو مَن سيتولى، على الملأ، إذاعة شأنها، ونشر أنباء عِزّهَا ومجدها، والتنديد بخصومها، والحط من شأن أعدائها.
وقد قيضَ لى، أن أشهد- بصحبة الشاعر المصرى الكبير «زين العابدين فؤاد»- فى شهر ديسمبر عام ١٩٨٢، الوداع المهيب للشاعر الفرنسى التقدمى العظيم، «لوى أراجون»، حيث اجتمع عشرات الآلاف من محبى قصائده، وعارفى فضله، ومقدرى إبداعه، حاملين الورود الحمراء، يتقدمهم «جاك شيراك»، عمدة باريس آنذاك، ورئيس فرنسا بعد ذلك «من ١٩٩٥ إلى ٢٠٠٧»، لكى يُلقوا نظرة الوداع، على جثمان «أراجون»، صاحب «مجنون إلزا»، قبل أن يوارى التراب، فى مشهد مهيب، يليق بالعظماء.
فالشاعر الحقيقى هو حادى مسيرة ناسه، والنابض بمشاعر أمته وأهله، وتظهر ضرورته الوجودية فى أزمنة المحن، وأوقات الأزمات، فبكلمته تتقوى العزائم، وتتغذى الهمم، وتكون لوقع أبياته جلجلة السلاح فى معارك الشعوب وملاحم الأوطان.
وهكذا كان «أحمد فؤاد نجم» شاعر الشعب والوطن، الذى وصف «لويس أراجون» شعره بأن «فيه قوة تُسقط الأسوار»، فقد سُمع صوته عاليًا وبلادنا تئن من وقع ضربة يونيو ١٩٦٧ الغادرة، وفى تلك اللحظة التى كان يوشك كل شىء فيها على التداعى، ويقفز أعداء مصر فرحًا وغرورًا، ظهر مَن يُغنى لها أصدق الكلمات، وأبقاها:
«مصر يا أمة يا بهية يام طرحة وجلابية الزمن شاب وإنتى شابة هو رايح وإنتى جاية فات عليكى ليل ومية واحتمالك هو هو وابتسامتك هى هى تضحكى للصبح يصبح بعد ليلة ومغربية تطلع الشمس تلاقيكى معجبانية وصبية يا بهية».
غنى نجم للصنايعية والفلاحين والطلاب، وللجنود، ولفلسطين:
«يا فلسطينية والبندقانى رماكو بالصهيونية تقتل حمامكو فى حداكو يا فلسطينية وأنا بدى أسافر حداكو نارى فى إيديه وإيديه تنزل معاكو على راس الحية وتموت شريعة هولاكو».
وغنى «نجم» لـ«أرنستو تشى جيفارا»، أيقونة الثورة العالمية، وللمكدودين فى شتى بقاع الأرض، الذين تسحقهم أحذية الأقوياء والقتلة، مناديًا إياهم: «يا تجهزوا جيش الخلاص، يا تقولوا ع العالم خلاص!»، وغنى للضعفاء والفقراء «ملح الأرض»، وللعاشقين المحبين للوجود للحياة، وكانت كلماته باعثة للإشراق، مليئة بعنفوان العشق للكون وللناس وللوجود بكامله، عامرة بالود والـ«جدعنة» والاعتزاز بالقيم الإنسانية الراقية.
وقد كان من حسن طالعى أن عرفت «أحمد فؤاد نجم» فى مقتبل شبابى، ونحن، الجيل الذى تجرَّع مرارات «النكسة» المزلزلة، فانفجر، ألمًا، على ما حاق ببلاده من وجع ومهانة، وقت أن كان جيش العدو يقبع مُتربصًا على الضفة الأخرى للقناة، ساعتها كانت كلمات «أحمد فؤاد نجم» البلسم الذى هدَّأَ من عذاباتنا، لأنه بث فينا الشعور بأن لمصر قيامتها، ولبنيه وثبتهم، ولشعبها إرادة الحياة.
فى معتقل «القلعة» الرهيب، التقانا «نجم» ورفيق فنه العظيم، الشيخ «إمام عيسى»، بعد أن تم اعتقالنا، من جامعة القاهرة، فجر يوم ٢٤ يناير ١٩٧٢، إثر فض اعتصام آلاف الطلاب الذين اجتمعوا يطالبون بحرب الثأر من العدو الصهيونى. رآنا ولم نره، فقد كنا معصوبى العيون، موثوقى الأقدام، فكتب، ولحن الشيخ «إمام» وغنى:
«أنا رُحت القلعة وشوفت ياسين حواليه العسكر والزنازين أنا شفت شباب الجامعة الزين أحمد وبهاء والكردى وزين حارمينهم حتى الشوف بالعين وف عز الضهر مغميين يا خساره يا أزهار البساتين أنا رحت القلعة وشوفت ياسين».
ومضت الأيام، وحارب جنودنا وطردوا المحتل الغاصب، كما تنبأ «نجم» ومعه كل المخلصين وكبر الطلاب وغادروا مقاعد الدرس، ولكن لم يغادرهم صوت عمنا «نجم» المُدَوى، ولا ابتسامته العذبة الواثقة، ولا يقينه الصوفى الراسخ، بقيمة هذا الوطن، وعظمته، وخلوده إلى أبد الآبدين.
اليوم، ٣ ديسمبر، تحل ذكرى رحيل شاعرنا وفارسنا وأخينا وعمنا وحادى مسيرتنا، «أحمد فؤاد نجم»، الذى غادرنا عام ٢٠١٣، فله السلام، ولمصر، التى تدلَّه فى حُبها، وذاب عشقًا لناسها وترابها، المجد، فى المبتدأ والمُنتهى.