رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ملف الوحدة الوطنية


اشتعل الشعور الطائفى مؤخرًا فى قرية «البرشا»، الأربعاء ٢٥ نوفمبر، بعد أن شاع أن شابًا مسيحيًا من أهالى القرية كتب منشورًا على «فيسبوك» يسىء إلى الإسلام، اندفع على إثره أهالى القرية المسلمون إلى الاشتباك مع أسرته، والاشتباك بالحجارة وصولًا إلى إلقاء الزجاجات الحارقة على بيوت الأقباط، وإصابة البعض منهم السيدة إستوليا فرج الله بحروق أثناء إلقاء شُعل النيران على بيتها، وسقوط شعلة على سريرها، كما حاول البعض مهاجمة كنيسة أبوسيفين فى القرية، بينما كان الأقباط يرفعون تسبيحة الميلاد فى الداخل، لكن قوات الأمن تحركت بسرعة، ودفعت بعشرات عربات الإطفاء والأمن إلى «البرشا»، وأغلقت مداخل ومخارج القرية وأوقفت الصدام الطائفى.
وقرية «البرشا» واحدة من قرى محافظة المنيا التى يسكنها المسيحيون بكثافة، ويحفل تاريخها بأحداث العنف الطائفى، ووفق تقارير رسمية فقد سجلت المنيا سبعين واقعة عنف طائفى بين ٢٠١١ و٢٠١٦، كما شهدت قرية «البرشا» نفسها بعضًا من تلك الأحداث كان آخرها فى أغسطس ٢٠١٢، حين نشبت معركة أصيب فيها خمسة أفراد بعد مشاجرة بين مسلم وقبطى على مقهى.
نحن إذن أمام ظاهرة، وليس حدثًا عابرًا.. نحن فى واقع الأمر أمام ملف الوحدة الوطنية بتفاصيله الصغيرة والكبيرة، وأمام العوامل السياسية والاجتماعية والاقتصادية التى تغذى روح الطائفية، وتجعل التعايش بين المسلمين والأقباط حقلًا ملغومًا، كل شبر فيه قابل للانفجار بمجرد عبور أى شخص أو النطق بكلمة أو وقوع سوء فهم، ولو أننا نحيا فى ظروف طبيعية لتم ببساطة التحقيق القانونى مع القبطى الذى نشر كلمته على «فيسبوك»، وتفادى همجية العدوان على الأقباط وممتلكاتهم، هذا مع العلم أن صاحب كلمة «فيسبوك»، التى أشعلت الحريق، أكد أن الحساب مسروق منه، بل إنه لا يعيش فى القرية منذ زمن، لكن فى الأجواء المتوترة تكفى كلمة أو نبرة أو حركة لإشعال معركة تؤدى إلى حرق المنازل وترويع الآمنين وإتلاف الممتلكات الشخصية للأقباط.
والقرية المذكورة مسرح الأحداث تشبه معظم قرى الصعيد، التى لا تعرف وزارة الثقافة الطريق إليها، بل إن مداخل القرية ممتلئة بالقمامة التى تتراكم أيضًا عند بوابات المدارس، وأمام المستشفى الوحيد بالقرية الذى لا يعمل به سوى طبيب عام، كما أنه مغلق فى الليل، أما الصرف الصحى فما زال حلمًا من أحلام القرية التى يسكنها نحو ثلاثين ألف مواطن.
تعانى «البرشا» من الفقر الروحى، الثقافى والفقر المادى، وغياب أى جهد للتنوير الفكرى، مع أن هناك الكثير من الآثار التاريخية فى المنطقة، منها توابيت فرعونية مزخرفة نقلت إلى المتحف المصرى وغيرها.
وبينما يشير التاريخ إلى الثقافة الماضية، فإن الحاضر لا يشير إلى شىء من تلك الثقافة، ليس فى القرية الصغيرة فحسب بل وخارجها.
ومن المتوقع أن تشتعل مثل تلك الأحداث من وقت لآخر ما دمنا نشاهد على شاشات التليفزيون دعاة يُكفّرون المسيحيين، ونسمع من الجوامع خطابات الكراهية، وما دامت مدارسنا لا تغرس من طفولة تلاميذها أن «الله محبة»، وأن تلك العبارة أخت عبارة «بسم الله الرحمن الرحيم»، وطالما ليس لدينا فى مقررات المدارس كتاب عن «القيم الدينية المشتركة»، يوضح أن الإسلام والمسيحية يدعوان لقيم مشتركة أساسها المحبة، مثل البر بالوالدين، والعطف على الفقراء، ومساعدة الجار، والصدق فى القول والمعاملة، وغير ذلك من قيم دينية مشتركة ملهمة للنفوس الطاهرة العاقلة.
نحن فى أمس الحاجة للانتباه إلى ملف الوحدة الوطنية، لأنه بوسع مصر أن تحقق أى شىء فى ظل إمكانيات مادية ضئيلة، وأن تصل لأى شىء فى ظل ظروف دولية معاكسة، لكننا لا نستطيع أن نبلغ أى شىء من دون وحدتنا الوطنية، ومن دون أن نمضى كتفًا بكتف.
سيظل ملف الوحدة الوطنية بحاجة لخيال من وزارة التربية والتعليم ومن وزارة الإعلام وبالطبع من وزارة الثقافة، التى قلما تبذل جهدًا ملموسًا من أى نوع على هذا الطريق. ليس لنا سوى طاقاتنا وقدراتنا، وليس لنا سوانا معًا، وليس لنا معًا سوى مصر واحدة تحت قمر واحد وشمس واحدة، نعيش على أرضها شعبًا واحدًا.