رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أدب الطفل.. سلاح مصر الناعم «1»




قرأ صبى فى التاسعة من عمره كتابًا للأطفال عن أمراض القلب، كما قرأ وصفًا عن اضطراب ضربات القلب.. وكان الكتاب يصف طريقة بسيطة لصنع سماعات طبية، من أنبوب بلاستيك وقُمع من الورق المقوى، فصنع الصبى تلك السماعة.. وكنوع من اللعب، كشف بها على قلب أخته، لكنه اكتشف شيئًا غريبًا أثناء اللعب.
فأسرع يقول لأمه: إن قلب أختى مريض.. فردت عليه الأم: شىء حسن أن تلعب، لكن لا تحاول تحويل اللعب إلى حقيقة.. لكن الصبى عاد يكشف على أخته، ويؤكد لأمه، فى إلحاح، أن قلب أخته مريض.. وظل يكرر فى إلحاح شديد، إلى أن اضطرت الأم إلى أن تأخذ الطفلة إلى طبيب متخصص فى أمراض القلب.. وكانت المفاجأة أن الطبيب اكتشف فعلًا أن قلب الطفلة مصاب بمرض خطير، استلزم سرعة إجراء عملية جراحية كبيرة فى قلبها، أنقذتها من الموت.. هذه ليست قصة من وحى الخيال، بل إن أحداثها وقعت بالفعل.
هل رأيتم كيف أن كتابًا، تمت كتابته للأطفال، بوضوح ودقة وبساطة، وبأسلوب علمى، قد أشعل شعلة الإبداع فى روح طفل وعقله، فأنقذ أخته من مصير أليم؟.. هذا يدعونا إلى السؤال: أين نحن من أدب الطفل، فى حياتنا؟.. ليس من أجل توجيههم نحو العلوم والآداب.. بل أكثر من ذلك، أن يفهموا ثقافة مجتمعاتهم، وأن يعرفوا أعداء بلادهم، ويتحصنوا ضد الأفكار الهدامة، التى يحاول البعض غرسها فى النشء، من خلال بعض المدارس والمراكز، تلك التى لا يزال فيها عدد من المحسوبين على جماعة الإخوان وأشباهها من الجماعات المتطرفة.
الكثير من الأدباء يجمعون على أن الكتابة للطفل تتطلب مهارات وأدوات سردية، ربما تفوق فى صعوبتها الأدوات التى يحتاجها الكاتب فى كتابته للكبار، إذ إنها تعرض موضوعات أخلاقية مُعقدة، بأسلوب روائى وقصصى بسيط، وربما يقترب من الفكاهة التى تقى الطفل شر الملل، وتجذبه إلى حب القراءة منذ نعومة أظفاره.. وقد عرفت مصر العديد من الأدباء والكُتّاب الذين اهتموا بهذا اللون الأدبِى، الذى يُعنى بكتابة النثر والشعر للأطفال ما دون سن المراهقة.
إلا أن الأساطير التى بنيت عليها القصص التى كانت تروى شفويًا، كانت المحور الذى يرتكز عليه أدب الطفل قديمًا، وبعد ذلك تقدمت القصص لتصبح ذات تأثير على الجماعة، مثل الولاء للقبيلة والحفاظ على التقاليد.. وكان الهدف هو غرس السلوكيات المرغوبة فى نفوس الأطفال.. أما أولى القصص المكتوبة التى عرفتها البشرية، فهى القصص المكتوبة على ورق البردى.. وبقيت عبارة عن حكايات وأساطير، إلى أن جاء الإسلام، حيث ظهرت قصصًا تناولت أخبار الرسول- صلى الله عليه وسلم- وأعماله، وأخبار المسلمين والغزوات والانتصارات، وقصص الأنبياء والأمم والشعوب التى وردت فى القرآن الكريم.. كما أدت الفتوحات الإسلامية إلى دخول قصص كثيرة من الشعوب والأمم غير العربية، مثل الفارسية والرومانية واليونانية والهندية والإسبانية، وكانت معظمها أساطير وخرافات وقصص حيوانات.. ثم بدأت الترجمة، بكتاب «كليلة ودمنة» و(ألف ليلة وليلة)، مع إضافات جديدة نابعة من الخيال العربى، مثل قصة «حى بن يقظان» وقصة «سيف بن ذى يزن» و«عنترة بن شداد».. وعندما بدأ العرب يكتبون قصصهم وأخبارهم، فى أواخر العصر الأموى وأوائل العصر العباسى، دونوا وكتبوا كل شىء، مما جعلها من أغنى مصادر أدب الطفل العربى.
فى القرن السابع عشر، بدأ أدب الطفل فى فرنسا.. لكن الكاتب لم يكن يذكر اسمه على ما يكتبه للأطفال، خشية الحط من قدره أمام الناس، إلى أن جاء الشاعر الفرنسى تشارلز بيرو، وكتب قصصًا للأطفال بعنوان «حكايات أمى الإوزة» ووضع له اسمًا مستعارًا، لكنه لاحظ الإقبال الشديد على قصصه، فألف مجموعة أخرى بعنوان «أقاصيص وحكايات الماضى»، وهنا كتب اسمه واضحًا.. بعده، جاءت محاولات السيدة لبرتس، التى كتبت «مخزن الأطفال»، قبل أن تظهر الكتابة للطفل بشكل جديد، فى القرن الثامن عشر، بظهور جان جاك روسو، وكتابه «إميل»، الذى اهتم بدراسة الطفل كإنسان قائم بذاته وشخصيته المستقلة.. وبعد ذلك تمت ترجمة قصص «ألف ليلة وليلة» إلى اللغة الفرنسية، ثم صدرت أول صحيفة للأطفال فى العالم باسم «صديق الأطفال».
فى البلاد العربية، ظهر أدب الطفل، زمن محمد على باشا فى مصر، عن طريق الترجمة، وكان أول من ترجم كتابًا للأطفال، عن الإنجليزية، هو رفاعة الطهطاوى، الذى كان مسئولًا وقتها عن التعليم.. ترجم قصصًا وحكايات كثيرة، قبل أن يُدخل قراءة القصص ضمن المناهج المدرسية.. وقد طلب رفاعة، فى خطاب له إلى وكيل الحكومة المصرية، أن «يرسل كتبًا مطبوعة، ومؤلفة للصغار والتلاميذ، بحيث تميل أذهانهم إليها».
ولكن الخطوة الكبيرة فى كتابة أدب الطفل، جاءت على يد الشاعر المبدع أحمد شوقى، لأنه كان أول من ألف لهم باللغة العربية، واستفاد فيما كتبه من قراءاته فى الفرنسية، لا سيما حكايات لافونتين الشهيرة.. وقد كتب أكثر من خمسين قصة شعرية، ونظم أكثر من عشرة أناشيد، أو أغنيات، اتسمت كلها بسهولة الأسلوب وتسلسل الأحداث ووضوح الهدف التربوى، إلى جانب تسلية الطفل والترفيه عنه.. لأن «شوقى» كان يدرك أن أدب الطفل أقوى سبيل يعرف به الصغار الحياة بأبعادها المختلفة، وأنه وسيلة من وسائل التعليم والتسلية.. لذلك أعطى الأطفال، من خلال قصصه الشعرية وأناشيده، صورة واضحة لمجتمعهم الذى يعيشون فيه، ولمشكلات حياتهم التى سيواجهونها.
كان على وعى بما يكتب.. لذلك كان يبتعد عن التعقيد والفلسفة، ويجعل كتابته قريبة التناول من الأطفال، يأخذون الحكمة والأدب من خلالها، على قدر عقولهم، لأنه كان يتمثل له الصغار الذين يكتب لهم أمام عينيه، فضلًا عما عُرف عنه من حبٍ لأولاده وأحفاده.. فاستخدم قصص الحيوانات، لما فيها من التشويق والمتعة مع الحكمة والفائدة، وحرص على تنمية إحساسهم بجمال الكلمة وقوة تأثيرها.. وللحديث بقية.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.