رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المشكلة الليبية بين جهود التسوية وتحدى أمراء الحرب




جهود التسوية السياسية للمشكلة الليبية انبثقت عن مخرجات برلين يناير ٢٠٢٠.. تبناها مجلس الأمن، وعززها إعلان القاهرة.. البعثة الأممية تتحرك على مسارات ثلاثة «أمنى وعسكرى، اقتصادى، سياسى»، وتعمل بشكل متوازٍ عبر سلسلة من التفاوضات، فى كل من مونترو وجنيف بسويسرا، بوزنيقة فى المغرب، والغردقة والقاهرة فى مصر، وتونس فى الطريق.
مباحثات مونترو: ممثلو القوى السياسية اجتمعوا فى «مونترو» من ٧ إلى ٩ سبتمبر، لمناقشة الأسس المقترحة لاستئناف المسار السياسى.. صدرت عنهم عدة توصيات: إعادة تشكيل السلطة التنفيذية من مجلس رئاسى «رئيس ونائبين»، وحكومة وحدة وطنية مستقلة عنه.. إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية خلال ١٨ شهرًا وفق إطار دستورى يُتفق عليه.. تطبيق قانون العفو وتسهيل عودة النازحين والمهاجرين كمقدمة للمصالحة الوطنية، وتلك إشارة لسيف الإسلام القذافى وبقايا النظام السابق.. نقل مؤسسات السلطة التنفيذية ومجلس النواب إلى سرت موقتًا.
لقاءات بوزنيقة: لقاءات ممثلى البرلمان والمجلس الأعلى للدولة تمت فى بوزنيقة المغربية على مرحلتين خلال سبتمبر وأكتوبر، توصلوا إلى تفاهمات تتعلق بضوابط وآليات ومعايير اختيار شاغلى المناصب القيادية للمؤسسات السيادية السبع، الواردة فى «المادة ١٥» من اتفاق الصخيرات «محافظ مصرف ليبيا المركزى، رؤساء ديوان المحاسبة، وجهازى الرقابة الإدارية ومكافحة الفساد، ورئيس وأعضاء المفوضية العليا للانتخابات، رئيس المحكمة العليا، والنائب العام»، وتضمنت التفاهمات توزيع المناصب بالتساوى بين الأقاليم الليبية الثلاثة، على أن يكون محافظ البنك المركزى من إقليم برقة ورئيس مفوضية الانتخابات والنائب العام من طرابلس، ورئيسا هيئة الفساد والمحكمة العليا من فزان.
محادثات الغردقة: كانت أول اجتماعات أمنية عسكرية «مباشرة» برعاية أممية من ٢٨ إلى ٣٠ سبتمبر ٢٠٢٠، ضمن محادثات اللجنة العسكرية المشتركة «٥+٥»، بمشاركة ٥ من ضباط الجيش والشرطة من كل من الجيش الوطنى والوفاق، ناقشت سبل نزع فتيل الأزمة، وبناء جسور الثقة، ومقترحات تفكيك الميليشيات، ونزع سلاحها، وتوحيد مؤسسات الدولة، وأسست هيئة لوضع آليات تنفيذ توصياتها المهمة: «الإفراج الفورى عن المحتجزين على الهوية أو المنطقة، تبادل المحتجزين خلال العمليات العسكرية، إيقاف حملات التصعيد الإعلامى ووقف خطاب الكراهية واستبداله بالتسامح والتصالح، ونبذ العنف والإرهاب، فتح خطوط المواصلات الجوية والبرية بين المدن وضمان حرية الانتقال، تكليف اللجنة العسكرية بتطوير حرس المنشآت النفطية وضمان انتظام عمليات الإنتاج والتصدير».. التوصيات كانت أساسًا تم البناء عليه فى جنيف، رغم استمرار بحث صلاحيات القائد العام للجيش، التى سيتم تفويضها لرئيس المجلس الرئاسى.
اجتماعات القاهرة: عقدت من ١١ إلى ١٣ أكتوبر لبحث البدائل الدستورية التى ستعرض على ملتقى الحوار السياسى، بشأن الإطار الملائم لتنظيم الانتخابات وتحريك العملية السياسية.. ممثلو مجلس الدولة تمسكوا بالمسودة التى أعدتها هيئة صياغة الدستور «لجنة الستين» ذات الميول الإخوانية عام ٢٠١٧، والتى أثارت إشكاليات تتعلق بإحالة كل مشاريع القوانين والقرارات إلى المفتى لإقرارها، مما يتعارض وروح الدولة المدنية.. ممثلو البرلمان رفضوا، لأن المسودة صدرت عن هيئة منتهية ولايتها، ولا يجوز الاستفتاء عليها، كما رفضها ممثلو برقة وفزان، لانطوائها على سوء توزيع للثروة بين الليبيين، وعدم المساواة بين الأقاليم.. تم الاتفاق على بحث مقترحات بتشكيل لجنة لتعديل مسودة ٢٠١٧، وأخرى لتعديل دستور ١٩٥١، والعمل به لفترة انتقالية مدتها خمس سنوات قبل الاستفتاء عليه.. توافق الجميع على وثيقة دستورية واحدة أمر بالغ الصعوبة، ويعد واحدًا من أهم معوقات تسوية الأزمة.
مفاوضات جنيف: اللجنة العسكرية المشتركة استأنفت اجتماعاتها فى جنيف من ١٩ إلى ٢٣ أكتوبر، لبحث تثبيت وقف إطلاق النار، استنادًا إلى مخرجات الغردقة، ونجحت فى التوصل إلى اتفاق شامل ودائم فى كل أنحاء ليبيا، دخل حيز التنفيذ فور توقيعه، على ألا يسرى على المجموعات الإرهابية المصنفة من قبل الأمم المتحدة.. أوصى بإخلاء جميع خطوط التماس من الوحدات العسكرية والمجموعات المسلحة، وتشكيل غرفة أمنية لوضع وتنفيذ ترتيبات تأمين المناطق التى تم إخلاؤها، وخروج جميع المرتزقة والمقاتلين الأجانب فى مدة أقصاها ثلاثة أشهر، وتجميد العمل بالاتفاقيات العسكرية الخاصة بالتدريب ومغادرة أطقم التدريب للبلاد، وحصر وتصنيف كل المجموعات والكيانات المسلحة، وإعادة دمج عناصرها بشكل فردى بمؤسسات الدولة!!، وإعادة هيكلة قوة حرس المنشآت.

رغم تعدد الجهود على محاور مختلفة، فإن هناك عقبات تعترض عملية التسوية، وقد تحول دون نجاحها:
الأولى: الوجود التركى.. تركيا باتت الخاسر الأكبر بين الأطراف المعنية بالأزمة، نتيجة انتهاج أردوغان سياسة حافة الهاوية فى تحركاته شرق المتوسط، وتجاهله الضغوط والمناشدات الدولية بوقف ضخ الأسلحة ودفع المرتزقة إلى ليبيا.. حتى روسيا التى استضافته فى يناير ٢٠٢٠، ضمن جهودها السياسية، تجاهلته ودعت ماكرون لزيارة موسكو، وبحث نفس الملفات التى كانت من قبل محورًا للاهتمام مع أنقرة.. وعلى الصعيد العسكرى فقد راهنت أنقرة على قوتها العسكرية، لتحقيق حسم سريع فى سرت والجفرة والهلال النفطى، إلا أن الخط الأحمر المصرى أجهض الخطة.. حتى عقود الإعمار ومشاريع النفط والكهرباء، أحبطها الاتفاق على إيداع عائدات النفط فى صندوق خارجى مستقل، حتى يتم توحيد المؤسسات الليبية.. تركيا فى مأزق.
لكن ذلك لا ينفى أن تركيا قد أصبحت طرفًا رئيسيًا فى الأزمة.. تمتلك القرار السيادى فى طرابلس والمنطقة الغربية، ولن تغادر قبل ضمان مصالحها، خاصة فيما يتعلق بنفوذها المنبثق عن اتفاقياتها العسكرية والسياسية والأمنية والاقتصادية مع السراج، أيًّا كان التكييف القانونى لمشروعيتها من عدمها.. وهى تراهن على أن دمج الميليشيات داخل المؤسسات العسكرية والأمنية يمثل حصان طروادة الذى يمكنها من اختراق الدولة الليبية، والحفاظ على نفوذها.. أردوغان وصف اتفاق جنيف بأنه «ضعيف»، وشكك فى إمكانية صموده وقابليته للتنفيذ، وتساءل عما إذا كان يمكن سحب مرتزقة «فاجنر» الروسية خلال الثلاثة أشهر، مغفلًا وجود المرتزقة السوريين تمامًا، وأصدر تعليماته بالبدء فى تنفيذ برامج الإعداد العسكرى والعقائدى للميليشيات الليبية المختارة، لتكون مرتكزه الرئيسى فى ليبيا خلال المرحلة المقبلة.
الثانية: أمراء الحرب.. معظم التوصيات السابقة يستحيل تنفيذها على أرض الواقع، فالميليشيات المسلحة المدعومة من الإخوان تمسك بزمام الأمور غرب ليبيا، ولن تسمح بعودة الاستقرار أو فرض سلطة الدولة، لأنهما يتعارضان مع سعيها لتفكيك الدولة وإسقاط مؤسساتها، لتأسيس دولة الخلافة التركية.. ولديها الخبرة الكافية، فقد وأدت الانتخابات التشريعية والتنفيذية فى ديسمبر ٢٠١٧ ثم ديسمبر ٢٠١٨، ولا يمكن التعويل على التخلص منها استنادًا إلى قوة محلية، لأن الجيش الوطنى عجز عن ذلك خلال حملته التى استغرقت أكثر من عام منذ ٤ أبريل ٢٠١٩، بغض النظر عن الأسباب.. وبالتالى لا يمكن تصور أن الميليشيات تسمح بتنفيذ توصيات تتعلق بتفكيكها.. كل ما يدور من مباحثات يصبح مجرد استهلاك للوقت، لأنه لا توجد إرادة دولية جادة تستند إلى قوة عسكرية، قادرة على فرض قراراتها على الميليشيات المسلحة، وإرادتها السياسية على تركيا.. ولعل ذلك ملائمًا لتعزيز الدور المصرى هناك بتوافقات دولية.
وضمن ضغوطهم على الوفاق، شارك ٣٥ من قادة وأمراء كتائب الميليشيات ومحاور عملية «بركان الغضب»، فى اجتماع برئاسة السراج فى ١٣ أكتوبر، ضم أعضاء المجلس الرئاسى ورئيس الأركان ووزير الدفاع وأمراء غرف العمليات والمناطق، واحتجوا على تجاهلهم فى مسارات التسوية السياسية، وطالبوا بتمثيل الكفاءات منهم ضمن التشكيل الوزارى المرتقب، وإعطاء مزيد من الاهتمام لملف جرحى ومصابى الميليشيات.
آمرو المحاور وقادة الميليشيات خرجوا من الاجتماع ليشكلوا ائتلافًا عسكريًا جديدًا باسم «القوات المدنية المساندة»، لفرض أنفسهم كطرف أساسى فى الحوارات السياسية، هذه الخطوة تعكس اليأس من إمكانية استمرارهم كقوى عسكرية مفتتة، وضرورة الانخراط فى العملية السياسية ككيان موحد، يتلمس موطئ قدم، ضمن المؤسسات السياسية للنظام الجديد، الجارى تشكيله.. والحقيقة أنه ينبغى التحذير من خطورة هذا الكيان، لأنه استنساخ لـ«غرفة عمليات ثوار ليبيا»، التى تأسست منتصف ٢٠١٣، وارتكبت العديد من الجرائم، منها اختطاف دبلوماسيين بالسفارة المصرية فى طرابلس، بعد القبض على رئيسها شعبان هدية فى الإسكندرية يناير ٢٠١٤، كما استهدفت «قناة العاصمة» الليبية بهجومين صاروخيين.
عندما بدأ «محمد بعيو»، رئيس مؤسسة إعلام الوفاق، تنفيذ مقررات الغردقة، ووقف خطاب الكراهية، قامت كتيبة مسلحة تابعة لوزارة الداخلية باختطافه من منزله، دون أمر رسمى.. إبراهيم بيت المال، آمر غرفة عمليات سرت الجفرة، طالب المجلس الرئاسى بسحب قرار تعيينه، لأنه أصدر تعميمًا للقنوات وصف هجوم الجيش الوطنى على طرابلس بالحرب الأهلية، وأمر بإزالة شعار عملية «بركان الغضب».. الميليشيات هاجمت مقر الإذاعة ومؤسسة الإعلام وسيطرت عليهما، وأجبرت الموظفين على إعادة الشعار وبث أغانٍ حماسية داعمة للميليشيات.. هؤلاء هم أصحاب النفوذ على الأرض، وهكذا يواجهون مقررات التسوية السياسية.. وهى حالة غير مبشرة.
الثالثة: المرتزقة والدور الدولى: مفاوضات الغردقة واستكمالها فى جنيف عجزت عن تقديم آليات عمل لإنهاء وجود المرتزقة، وضمانات حماية الحدود الليبية، وما تم صدوره من توصيات يصعب تنفيذ معظمها على الأرض، والسراج أوشك على ترك منصبه، وهو فى أشد حالات الخضوع للميليشيات، مما يعوق التنفيذ.. حل الأزمة يفرض وجود قوة قادرة على تنفيذ قرارات ونتائج المباحثات على أرض الواقع، خاصة ما يتعلق بجمع السلاح وتفكيك الميليشيات المسلحة، وإيجاد تسوية تخرج القوات الأجنبية والمرتزقة من ليبيا.. وطالما غابت هذه القوة فينبغى أن نتحسب لمواجهة عسكرية حتمية، تكون معسكرات الميليشيات ومخازن تسليحها ومواقعها هدفًا لتصفية مبكرة تسمح بسرعة الحسم، على نحو ما قامت به روسيا فى سوريا.

الدور المصرى فى تسوية المشكلة الليبية أصبح الأكثر فاعلية، نتيجة تولد الثقة لدى قطاعات داخل الغرب الليبى، بأن القاهرة تمتلك مفاتيح التسوية، متجردة عن المصالح.. فى الوقت الذى فقدوا فيه الثقة فى الوفاق، بعد وضوح خضوعها للاحتلال التركى، وعجزها عن ضبط الأمن والخدمات والمرافق، مما فجر موجة من الغضب الشعبى، ضربت مدن الغرب الليبى، بالإضافة إلى تفجر الصراعات بين أقطاب النظام.. استقبال القاهرة وفدًا من الغرب الليبى يضم خمسة من أعضاء المجلس الأعلى للدولة وأربعة من نواب طرابلس المنشقين، حدث بالغ الأهمية، لأنه أكد لليبيين موضوعية تعامل مصر مع أطراف الأزمة، وعدم انحيازها لأحد أطرافها.. الزيارة كانت إيجابية، عكست التوافق على إجراء الانتخابات قبل أكتوبر ٢٠٢١، وإعادة النظر فى مشروع دستور ٢٠١٧، وإعادة هيكلة المجلس الرئاسى، ومراجعة ملف توزيع الثروة والموارد، وملف المصالحة الوطنية.
وتظل القاهرة مفتاح الحل السياسى، وهى بكل ما تمتلكه من خبرة وآليات، قادرة على تحجيم دور الميليشيات، استنادًا إلى خلفية تواصلها السابق مع ممثلى مصراتة فى مباحثات توحيد المؤسسة العسكرية، وبالتالى إيجاد صيغة لاحتوائهم مرحليًا ضمن عملية التسوية، تلك مهمة لها أولوياتها، حتى لا تقتنص إحدى دول الإقليم فرصة غيابنا، لتختطف نجاحًا من حصتنا، على نحو ما فعلته إثيوبيا بين المجلس العسكرى الحاكم وتحالف المعارضة السودانية.. وسوف يلقى ذلك الدور المصرى ترحيبًا من كل الساعين لإنهاء صداع الأزمة الذى طال أمده.