رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تفجير السد.. بين الهزل والجد


دون ذكر اسم دونالد ترامب أو الولايات المتحدة، استنكر أبى أحمد، رئيس الوزراء الإثيوبى، ما وصفه بـ«التهديدات العدائية»، وأكد استعداد بلاده للرد على أى اعتداء يمس سيادتها، فى بيان أصدره، أمس السبت، بعد ساعات من إشارة الرئيس الأمريكى إلى أن مصر قد تضطر إلى تفجير السد الإثيوبى، حال عدم التوصل إلى اتفاق عادل بشأن قواعد بنائه وملء خزانه.
صدفة عجيبة أن تأتى إشارة الرئيس الأمريكى، بعد سنة بالضبط من تلويح رئيس الوزراء الإثيوبى، أمام برلمان بلاده، باعتزامه حشد الملايين واستخدام القنابل، فى «حرب سد النهضة»، التى توهّم حدوثها، زاعمًا أن «البعض يتحدث عن استخدام القوة» لمنعهم من إكمال بنائه.
فى ٢٢ أكتوبر الماضى، نقلت وكالة «أسوشيتد برس» هذه التصريحات العبثية عن أبى أحمد. وصباح اليوم بعد التالى، ٢٤ أكتوبر ٢٠١٩، جمعه لقاء بالرئيس عبدالفتاح السيسى، فى مدينة سوتشى، على هامش القمة «الروسية- الإفريقية»، وقال إن تلك التصريحات تم اجتزاؤها من سياقها، وطالها التحريف، وأكد أنه يكن كل تقدير واحترام لمصر قيادةً وشعبًا وحكومةً، وأن حكومته والشعب الإثيوبى ليس لديهما أى نية للإضرار بمصالح الشعب المصرى، وشدّد على أنه، بصفته رئيسًا لوزراء إثيوبيا، ملتزم بمسار المفاوضات وصولًا إلى اتفاق نهائى.
فى مكالمة تليفونية، أجراها أمام الصحفيين فى البيت الأبيض، أمس الأول، الجمعة، مع عبدالله حمدوك، رئيس الوزراء السودانى، ونظيره الإسرائيلى، تناول الرئيس الأمريكى قضية سد النهضة، وقال إن «الوضع خطير» وقد ينتهى بـ«تفجير ذلك السد»، ولن يلوم أحد مصر على ذلك، وأشار إلى أنه توسط فى اتفاق، لكن إثيوبيا قامت بانتهاكه، ما دفعه إلى قطع مساعدات عنها، وحث حمدوك على إقناع إثيوبيا بتسوية هذا النزاع.
الثابت هو أن مصر سعت بصبر، لامس حد البرود، للتوصل إلى اتفاق عادل، يتيح لإثيوبيا تحقيق أهدافها التنموية من بناء السد، دون المساس بحقوقنا وحقوق السودان التاريخية فى مياه النيل، ولم يحدث أن لوحت مصر باستخدام القوة أو أبدت أى رغبة فى اللجوء للخيار العسكرى، بل انصب كل تركيزها، ولا يزال، على التفاوض وفقًا لمبادئ القانون الدولى والشرعية الدولية، وحرصت دومًا على التفاوض كسبيل لتسوية الخلافات، بكل شفافية وحُسن نية.
فى المقابل، لم يبد الجانب الإثيوبى، خلال كل جولات المفاوضات، أى مرونة ولم يلتزم ببنود اتفاق إعلان المبادئ، الذى تم توقيعه فى مارس ٢٠١٥، أو بمبادئ القانون الدولى الحاكمة لإدارة واستخدام الأنهار الدولية، وعليه «وجدنا الأنسب أن تكون هناك وقفة، فى وجود وسيط دولى»، كما قال الدكتور مصطفى مدبولى، رئيس الوزراء، فى بيان ألقاه أمام مجلس النواب.
تأسيسًا على ذلك، أعلنت مصر عن ترحيبها بكل جهد دولى للوساطة، ورحّبت بتصريحات الإدارة الأمريكية التى طالبت فيها الأطراف الثلاثة بإبداء حُسن النية للتوصل إلى اتفاق، يحترم بموجبه كل طرف حقوق الطرف الآخر فى مياه النيل، وعلى الفور، قبلت مصر الدعوة التى تلقتها من الإدارة الأمريكية، للمشاركة فى اجتماع دعت إليه وزراء خارجية الدول الثلاث، والذى بدأت، بعده، جولة جديدة من المفاوضات، استضافتها واشنطن.
فى هذه الجولة، شاركت الولايات المتحدة والبنك الدولى، بصفة مراقب، وتولى الطرفان، فى فبراير الماضى، صياغة مسودة اتفاق وافقت على كل بنوده الدول الثلاث، ووقعت عليه مصر، منفردةً، تأكيدًا على رغبتها المخلصة فى إنهاء الأزمة، فى حين غابت إثيوبيا عن الاجتماع الأخير ورفضت التوقيع، ما أكد، بشكل قاطع، سوء نيتها وعدم رغبتها فى التوصل إلى اتفاق، ربما لأن قضية السد صارت نقطة ارتكاز، يتكئ عليها الائتلاف الإثيوبى الحاكم، لإطالة فترة بقائه فى الحكم، بعد عجزه عن الوفاء بتعهداته، وفشله فى مواجهه الأزمات الداخلية.
فى إثيوبيا عقلاء، ومنذ أيام قليلة بدأ البرلمان الإثيوبى مناقشة مشروع قرار تقدمت به كارين باس، رئيسة لجنة الشئون الإفريقية، يطالب الحكومة باتخاذ «موقف عادل» فى مفاوضات السد يحفظ حقوق مصر والسودان، وطبقًا لما ذكرته جريدة «بلاك ستار» الإثيوبية، فى ١٠ أكتوبر الجارى، فقد أعربت باس عن «قلقها» من نتائج المفاوضات، التى دفعت الولايات المتحدة إلى خفض مساعداتها لأديس أبابا، مشيرة إلى الأثر السلبى لهذا الإجراء على المجتمع الإثيوبى.
أخيرًا، ومع أن قواتنا المسلحة تمتلك القدرة، ومع أن تصريحات الرئيس الأمريكى، مع عشرات الشواهد، تؤكد عدالة موقفنا، ورعونة الائتلاف الإثيوبى الحاكم، إلا أننا لن نلجأ إلى استخدام القوة إلا بعد استنفاد كل الخيارات الأخرى، دون تهديد أو تهويش، ومعروف أن الدول القوية تعتمد فى التفاوض على التحدث بلين والتصرف بخشونة، بعكس ما تفعله الدول الضعيفة، التى تتحدث بخشونة، مع أنها تدرك جيدًا أنها لن تتحمل عواقب أى تصرف خشن.