رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المفكر المغربى أحمد عصيد: التيار الإخوانى المدعوم من قطر وتركيا أثبت فشله.. وأردوغان مصاب بموجة جنون

المفكر المغربى أحمد
المفكر المغربى أحمد عصيد

يعد المفكر المغربى أحمد عصيد أحد أبرز الوجوه الفكرية المثيرة للجدل فى الوقت الحالى، فمواجهاته المتكررة والمستمرة مع تيار الإسلام السياسى فضلًا عن آرائه الجريئة فيما يخص التراث الإسلامى، وتشديده على تجاوزه كخطوة ضرورية يمكن من خلالها للمسلمين الخروج من ردّتهم الحضارية، كل ذلك جعله على خطوط النيران فى مواجهة مباشرة مع الجماعات الدينية المُتشددة التى اتهمته مرارًا بالإلحاد ووضعته فى حالة من التهديد المستمر. عبر مؤلفاته حاول «عصيد» أن يبيّن أوجه العطب فى الأفكار المُعتنقة من قبل تيار الإسلام السياسى، ففى كتابه «الأمازيغية فى خطاب الإسلام السياسى» يوضح المفكر المغربى أن الخطاب السياسى للإسلاميين «لا يُقدم من الناحية النظرية أى مظهر للتماسك المنطقى، وأن نقاط التباسه العديدة هى ما تشكل مصدر قوته وتأثيره على المنخرطين فيه، عبر قوة الخطابة وشحناتها العاطفية»، ويحدد ثلاثة مستويات للالتباس والتناقض، الأول تاريخى يتمثل فى تناقض الخطاب مع التاريخ ومعطياته، والثانى واقعى يظهر فى تعارض المقول مع الحقيقة الإنسانية كما تبدو فى أفعال البشر وسلوكهم اليومى، والثالث معرفى يتجلى فى تعارض الموقف المعلن مع روح الشرع الإسلامى وغاياته نتيجة استحضار نصوص وتغييب أخرى.
يُهاجم «عصيد» تمسك المسلمين بالمذاهب الفقهية القديمة التى يعتبرها مسئولة عن تجميد المجتمعات الإسلامية وترديها الفكرى والحضارى، إذ جعلت العقل الإسلامى تحت وصاية القدامى غير قادر على التعاطى مع العصر وقضاياه المستحدثة جراء ذلك، لا يتردد فى التأكيد على ضرورة تجاوز تلك الأحكام الفقهية، بل وتعطيل نصوص قرآنية لا تتناسب مع مستحدثات العصر. ويشدد «عصيد» فى ختام كتابه حول الإسلام السياسى على أن «الرغبة فى الوفاء للماضى ليست دائمًا تشبثًا بالدين، إذ من الممكن أن تكون أهم خدمة نقدمها للدين هى التحرر من ماضٍ لم يعد يحمل من عناصر واقعنا الحالى أى شىء، ينبغى لكى يظل الإسلام قدوة للمسلمين ومنارًا للمستقبل ألا يعود رمزًا للماضى، وألا يجد نموذجه فى الماضى، بل فى الاجتهاد الذى ينفع الناس ويصون كرامتهم ويخدم الإنسان فى أسمى غاياته، ويفتح النص على حركية الواقع المتجدد».

وإلى نص الحوار:
■ دعوت لتعطيل نصوص قرآنية ارتأيت أنها لا تتناسب وروح العصر وتطوراته، من بينها نصوص الجهاد.. فهل العلّة فى النص ذاته أم فى تفسيره أم فى تغيّر الظروف؟
- فى الواقع دعوتى تلك كانت بسبب التناقض الصارخ الذى لاحظته فى سلوك المسلمين، فهم يتبرأون من الإرهاب ومن «داعش» و«طالبان» و«القاعدة» مثلًا، لكنهم يقرون جميع النصوص التى تعتمدها حرفيًا فى أعمالها التخريبية وجرائمها، وهذا جعلنى أعتبر أن الحل هو قيام المرجعيات الدينية الرسمية للدول الإسلامية بالإعلان بشجاعة عن أن تلك النصوص لها سياقاتها القديمة التى تجعلها مرتبطة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ، عكس ما قاله الفقهاء القدامى، ما يستلزم إعلان تعطيلها النهائى ما دام السياق القديم، سياق الحروب والغزوات والسبايا وملك اليمين لا يمكن أن يعود أبدًا.
طبعًا ووجه رأيى بموجة من الإرهاب الفكرى والسب والشتم والتحريض كالعادة، والغريب أن أى واحد من الذين يهاجموننى تسألينه عن «داعش» أو «القاعدة» سيقول بثقة تامة إن هؤلاء إرهابيون لا يفهمون الإسلام.
هكذا يدور العقل الإسلامى فى دوامة من التناقضات لا مخرج منها إلا بالتحلى بشجاعة الحسم فى القطع مع الفقه التراثى القديم وقواعده فى فهم نصوص الدين. فالمشكل إذن هو فى العقل الإسلامى الذى ما زال عاجزًا عن القيام بإعادة قراءة تخرجه من نفق التناقضات، ليعلن بوضوح أن الدين الإسلامى يضم قيمًا إنسانية كونية كغيره من الأديان، لكنه بالمقابل- وكغيره من الأديان أيضًا- يضم قيمًا أخرى لا علاقة لها بعصرنا ومجرد التفكير فيها يثير الكثير من الفتن.
إن الزمن لم يتغير فقط، بل إن وضعية المسلمين وقع فيها انقلاب شامل جعل من المستحيل استعادة الدولة والمجتمع القديمين، بينما بقى الفقه القديم حيًا فى تناقض تام مع الدولة الحديثة.
■ هل هذا التعطيل الذى تدعو إليه «مطلق» بحد ذاته أم مرتبط بما يستجد من تغيّرات عالمية أو سياقات تاريخية حديثة تتشابه فى ظروفها مع السياقات التى كان يُعمل بالنص خلالها؟
- يتعلق الأمر بإعادة قراءة فى إطار مشروع إصلاح دينى شامل، اعتمادًا على أدوات فكرية وقواعد علمية جديدة تجعل النصوص تفهم بمعيار «إنسى» حديث، تعطى فيه الأولوية للكرامة الإنسانية على النصوص وتفاسيرها القديمة، لقد كان الفقهاء القدامى حبيسى ظروفهم، لكن المشكل أن فقهاء اليوم لا يريدون الانتماء لظروفهم الجديدة فى القرن الحادى والعشرين، ويفضلون فى نوع من الكسل اجترار القواعد والآراء القديمة التى يتم تحويلها إلى أصنام، مما يؤدى إلى التصادم بين الدولة والمجتمع، وهذا ما يجعل المجتمعات الإسلامية لا تعرف السلم والتعايش المشترك، وتظل على فوهة بركان.
■ انتقدت فى كثير من المواضع تقديس المسلمين كُتب الحديث، وعلى رأسها البخارى ومسلم.. ما السبيل الأمثل برأيك للتعامل معها، كمصدر ثان للتشريع، وإلى أى مدى تتفق مع «القرآنيين» فى رؤيتهم لطُرق التعاطى مع كُتب الحديث؟
- فى الواقع القرآنيون محقون تمامًا عندما يعتبرون أن معظم مآسى المسلمين جاءتهم من الأحاديث المنسوبة إلى النبى بعد ٢٠٠ عام من وفاته، إنها أخبار ظنية اكتسبت مصداقيتها وشرعيتها من الرهانات السياسية لدولة الخلافة العباسية، والحل اليوم أمام هذا الركام الهائل من الأخبار الملفقة التى يتناقض معظمها مع التاريخ والعلم والواقع والمنطق العقلى، بل حتى مع القرآن، هو وضع معايير جديدة بدلًا من «الجرح والتعديل» الذى يبدو اليوم منهجًا بدائيًا أدى إلى تبنى أحاديث خرافية فقط لأن من جمعها اعتقد بأن رواتها «ثقات».
وأعتبر شخصيًا أن منظومة حقوق الإنسان الدولية بجانب الثورات العلمية المعاصرة تشكلان أفضل سند للقيام بفرز جديد لتلك الأخبار وفق معيار كرامة الرجل والمرأة والطفل فى عصرنا، وكذا معيار العلم والواقع، فمن غير المقبول اليوم أن يعتبر شخص ما مثلًا أن أحاديث مثل «من بدل دينه فاقتلوه» أو «لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» يمكن اعتمادها على أنها أخبار «صحيحة» تمثل مصدرًا للتشريع.
■ على من تقع مسئولية «تحرير العقل العربى» من تلك الأفكار المترسخة فى تكوينه الثقافى والمعرفى، والتى تدعو لتنقيحها وإزالة وتعطيل وتصحيح غير المناسب منها؟
- تقع أولًا على الإرادة السياسية للحكام وذوى القرار، فإذا ظل هؤلاء يعتبرون الدين عامل تهدئة وتخدير للعامة بدلًا من تأطير المجتمع وبناء وعى مواطن ومسئول، فلن يحصل الإصلاح الدينى المطلوب، الذى من شأنه أن يعطينا برامج تعليمية فعالة مبنية على العلم عوض الخرافة، وعلى قيم التضامن الإنسانى عوض العنف والكراهية، وهذا سيمكن من تحرير العقول وبناء أنظمة غير ممانعة ضد التقدم ودولة القانون.
■ هل العقل العربى فى وضعه الحالى مؤهل لاستقبال تلك المفاهيم التى ترتبط بواحدة من التابوهات الثلاثة «الدين»؟ ومن يقف عقبة فى طريق «تحرير» و«تجديد الخطاب الدينى» فى المجتمعات الإسلامية؟
- فى الواقع كان هناك منذ ١٩٧٩ تحالف جهنمى بين أنظمة استبدادية وحركات الإسلام الراديكالى بنوعيها الوهابية والإخوانية، وأدى هذا التحالف إلى خسائر فادحة فى الأرواح والعقول والمصالح، بل أدى إلى خراب بلدان بكاملها ظلت عاجزة عن استعادة الدولة وهيكلة مؤسساتها بسبب الطائفية الدينية، هذا دون أن ننسى العوامل الخارجية التى منها التدخل الأجنبى لقوى ذات مصالح فى المنطقة، والتى تعمل على فرض خرائط وأجندات لا تتناسب ومصالح شعوب شمال إفريقيا والشرق الأوسط.
■ وصفت الواقع الراهن الذى نعيشه بأنه «ممانع للتفكير النقدى»، وقلت إن السلطة هى السبب.. ألا تعتقد أن ثمة سلطات موازية أخرى تسببت فى ذلك المنع، منها السلطات الدينية التى تقف حجر عثرة أمام التغيير، وجماعات الضغط الإسلامية كالإخوان والسلفية وغيرهما؟
- نعم فى الواقع من أكبر عوامل الجمود والتخلف سلطة الجماعة داخل المجتمعات الإسلامية، فالاستبداد عندما يطول أمده ينتهى بأن يتحول إلى ثقافة سائدة ترفض أى تغيير، وإلى تيار عام فى المجتمع يقاوم كل جديد، ومن علامات خطورة هذا العامل أن بعض الأنظمة، حتى عندما تريد تحت ضغط من الخارج أو من النخب الداخلية إحداث إصلاح ديمقراطى ولو جزئى، تتعرض لردود أفعال رافضة فى المجتمع، وهذه من أكبر المعضلات التى تواجه كل هذه البلدان المعنية بحديثنا.
■ تتعارض نصوص دينية مع «المواثيق الدولية لحقوق الإنسان»، مثل بعض تفسيرات النصوص المرتبطة بحقوق المرأة على سبيل المثال، ومثل ما يتعلق بعقوبة الإعدام، وغيرها من التعارضات، فأى مرجعية يمكن اعتمادها فى تقديرك؟
- التعارض بين نصوص الدين وتحولات الواقع ومصالح الناس أمر طبيعى، حيث لا يوجد نص يمكنه استيعاب الواقع البشرى إلى ما لا نهاية، ولهذا من المعضلات الكبرى فى الفقه الإسلامى اعتقاد الفقهاء بأن بعض نصوص الدين «ثابتة قطعية الدلالة»، حيث عوض قراءتها مجددًا بمنهج مغاير يتم تحجيم الواقع وتجميده حتى يبقى ملائمًا للنصوص، وهو ما أدى إلى تخلف المجتمعات الإسلامية لقرون طويلة. نفس الشىء يقال عن ثوابت السياسة، فهى لدى العقل العربى ثوابت خارج التاريخ لا تتأثر بالمتغيرات والهزات الكبرى، ولهذا تعجز أنظمة المنطقة عن إيجاد الحلول الملائمة للزمان والمكان.
■ فى ظل التحوّلات الراهنة التى تشهدها تحالفات المنطقة، وبدء عهد جديد من السلام مع إسرائيل.. كيف ترى تلك المتغيّرات وأثرها على الأنظمة العربية الحاكمة وعلى الشعوب، وعلى قضايا وأزمات المنطقة بصفة عامة؟ هل تعتقد بأن ما وُصف بالثوابت العربية فى التعامل مع القضية الفلسطينية صار أمام حتمية إعادة مراجعة فى ضوء التغيرات الراهنة؟
- سوف تلاحظون أن الثوابت المذكورة لم تحل القضية الفلسطينية على مدى عقود بل أدت على العكس، إلى تعقيدها، فتعريب القضية الفلسطينية عزلها عن العالم، بينما أسلمتها أدت إلى شق الصف الفلسطينى وإضعاف تعاطف الناس فى بلدان كثيرة، فالقضية إذا كانت قضية احتلال تصبح عمليًا خارج أى تصنيف عرقى أو دينى، وهذا يظهر عجز العقل العربى- الإسلامى عن تدبير قضية أكبر منه، ولهذا فإلى اليوم ما زال كثير من المواطنين يخلطون بين اليهودية والصهيونية، وما زالت الضغائن تحل محل التدبير المعقلن لهذا الموضوع.
من ثم نفهم السبب الذى جعل بعض الأنظمة الخليجية تنحو نحو التطبيع مع إسرائيل، فالدور الأمريكى فى المنطقة إضافة إلى تهديد الخطر الشيعى الإيرانى وكذا الخلاف القطرى- السعودى- الإماراتى، كلها عوامل قادت عمليًا إلى التطبيع كخيار استراتيجى للعب دور طليعى فى المنطقة، بعد فشل المشروع القطرى الأمريكى الذى راهن على الإخوان المسلمين سنة ٢٠١١.
■ ما تعليقك على حديث الرئيس ماكرون حول «التصدى للانعزالية الإسلامية»؟ وما رأيك فى رد الفعل الذى أبدته مؤسسة الأزهر ومجمع البحوث الإسلامية إزاء تلك التصريحات؟
- ماكرون تحدث عن الإسلام الراديكالى الإخوانى والوهابى، لأن هذه هى الصيغة الأكثر بروزًا للإسلام فى الغرب، إنه الإسلام المعولم بأموال البترول، والذى كتبت عنه منذ سنة ١٩٩٤ قائلًا: «سيصير إسلام البترول كارثة معولمة عما قريب»، فى اعتقادى التدابير التى أعلن عنها الرئيس الفرنسى سيضطر إليها جميع دول أوروبا والغرب، بل ودول الجنوب أيضًا، ومنها مراقبة المساجد والجمعيات الأصولية ورفض الأئمة القادمين من خارج الدول الغربية، ورفض أى تربية موازية مضادة للتعليم الرسمى، ولكن أيضًا تفكيك الأحياء المنعزلة فى شكل «جيتو» خاص بالجالية المسلمة، إنها إجراءات دفاعية لحماية أسس الدولة الحديثة فى الغرب ضد ظاهرة لم تكن فى الحسبان.
■ ما رؤيتك للسبل المتاحة حاليًا لمواجهة دعم تيار الإسلام السياسى من قبل بعض الدول العربية مثل قطر وتركيا؟ وما مستقبل ذلك التيار برأيك فى ظل المعطيات الراهنة؟
- من المؤكد أن التيار الإخوانى الذى تدعمه قطر وتركيا قد فشل فشلًا ذريعًا فى إعطاء نموذج للحكامة والتدبير الديمقراطى وحل المعضلات التنموية للبلدان التى تولى فيها تدبير الشأن العام، لقد دعمت أمريكا هذا التيار لاعتقادها بأنه يمثل الشارع ويضمن استقرار هذه البلدان وخدمة المصالح الأمريكية، لكن انتفاضة الشارع المصرى والتونسى ضد حكومة الإخوان قلبت الموازين، أما تركيا فيبدو أن قيام أردوغان بتحويل تركيا من النظام البرلمانى إلى النظام الرئاسى ومنع أى معارضة له قد أصابه بموجة جنون ستؤدى به لا محالة إلى الزج ببلده فى مزيد من بؤر التوتر، ما قد يؤذن بنهايته واستعداء الكثير من بلدان العالم.
وبخصوص مستقبل الإسلام السياسى عمومًا فهو أمام خيارين، إما العلمنة التدريجية والتصالح مع العصر وتغيير النهج الماضوى فى التفكير، أو الانتحار بالتعرض لضربات الخصوم سواء داخل البلدان الإسلامية أو خارجها.