رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

السابح وحده فى بحر الظلمات


تصريحات هنا، وتهديدات هناك.. ونبرة عنجهية جهورية تطال الجميع.. تلك هى حقيقة الرئيس التركى رجب طيب أردوغان، الذى طالما تغنى باتباع سياسة «صفر مشكلات»، التى سرعان ما انهارت، نتيجة بحث الرجل الدائم عن إثارة المشكلات مع جيرانه، محاولًا استعادة أوهام الماضى العثمانى من جديد.. أو باحثًا عن نفوذ مفقود هنا.. أو هيبة ضائعة هناك.. أو أرض عربية لم يشبع أجداده العثمانيون من نهبها قديمًا، ويسيل لعاب العثمانيين الجدد لاستنزافها واحتلالها بشتى الذرائع حديثًا.. حالة من العبث السياسى والعسكرى، تركت أردوغان وحيدًا فى العالم، بعد أن لفظته دول المنطقة العربية، فيما عدا المتآمرين معه، وكذلك كل حلفاء الأمس.. ليس هذا من عندياتنا، بل ما يراه الآخرون معنا.
«تركيا اختارت طريق الانفصال عن بقية العالم».. تحت هذا العنوان، نشرت صحيفة «نيزافيسيمايا جازيتا» الروسية مقالًا يصف كيف قاد استبداد الرئيس التركى، داخل بلاده وبشعبه، إلى تغييرات جذرية فى السياسة الخارجية، مما يولّد سؤالًا عن إمكانية الثقة به.. لقد أظهر التصعيد فى ناغورنى قره باغ، بين أرمينيا وأذربيجان، استعداد شريك روسيا التكتيكى تركيا- لسيناريو المواجهة فى جنوب القوقاز، بعد أن اعترفت أنقرة مرارًا، فى الآونة الأخيرة، باستعدادها لتزويد باكو بما قد تحتاجه فى المواجهة مع يريفان.. لكن يظل نزاع ناغورنى قره باغ، مجرد إضافة إلى سلسلة الملفات الإشكالية، التى تشكل تركيا مؤخرًا محورًا لها.. فبعد أن قدمت مساعدات عسكرية وسياسية نشطة إلى حكومة الوفاق الوطنى الليبية، وأرسلت بخبرائها وبعض جنودها، وبالميليشيات السورية، لاحتلال طرابلس وما حولها، أعلنت أنقرة، بشكل قاطع، عن تعيين حدود وجودها فى شرق البحر الأبيض المتوسط.. وكاد دخول السفن الحربية والبحثية التركية، إلى المناطق المتنازع عليها بين اليونان وقبرص، يؤدى إلى نزاع مسلح محدود.. بالإضافة إلى ذلك، فإن التوترات، لا تزال قائمة فى سوريا، ويتزامن البحث الدولى المضنى عن حل، مع تهديدات مستمرة من أردوغان.
قبل تحولها النهائى إلى جمهورية «سوبر رئاسية»، حاولت تركيا الالتزام بعقيدة السياسة الخارجية التى طورها الداعم السابق لأردوغان، أحمد داود أوغلو.. وكان أحد مبادئها العملية هو «صفر مشاكل مع الجيران»، و«دبلوماسية سلام وقائية ذات أولوية»، تفترض أقصى قدر من المرونة فى السياسة الخارجية، والحيلولة دون وصول النزاعات إلى منطقة حرجة.. لكن التركيز التدريجى للسلطة فى يد شخص واحد، لم يقلل من أولوية الدبلوماسية فحسب، إنما قاد البلاد إلى طريق صراع شديد مع الجيران والشركاء الدوليين الرئيسيين.. وفى حين أن التوازن المستمر على شفا الحرب، قد يساعد أردوغان فى الاحتفاظ بتأييد الجزء القومى من جمهور الناخبين، لكنه لا يكسبه موارد جيوسياسية أو اقتصادية أو حتى حلفاء.
فمع الرئيس التركى أردوغان، هناك دائمًا أزمة ما تُخفى أخرى.. وقد أفردت صحيفة «لوفيجارو» الفرنسية، ملفًا كاملًا حول الوجود التركى فى معظم الصراعات.. فبينما كان يتم وضع وقف إطلاق نار هش، حول ناغورنى قره باغ، كانت أنقرة بالفعل تعيد إحياء الجمر مع اليونان، من خلال إعادة فتح مدينة فاروشا فى خضم الانتخابات الرئاسية فى شمال قبرص، حيث كانت المدينة منطقة محظورة منذ تقسيم الجزيرة عام ١٩٧٤.. من خلال الإعلان التركى عن إعادة فتح الشاطئ القبرصى للجمهور، يسعى أردوغان، قبل كل شىء، إلى دعم «إرسين تتار»، الزعيم الحالى لجمهورية شمال قبرص المعلنة من جانب واحد، لكن القرار قوبل بموقف حازم من قبل القبارصة اليونانيين.. ولذا، فإن الصحيفة الفرنسية، ترى أن تركيا تريد دفع «بيادقها» أكثر قليلًا فى قبرص، التى تعتبرها جزءًا رئيسيًا فى استراتيجيتها لتوسيع حدودها البحرية.. لقد قدمت للتو طلبًا للملاحة خاصًا بسفينة التنقيب التركية للفترة من ١٠ أكتوبر إلى ٩ نوفمبر، فى المنطقة الاقتصادية الخالصة فى قبرص، وبشكل أكثر دقة فى المربعين السادس والسابع، بما فى ذلك منطقة الحفر والتنقيب للعملاق الفرنسى توتال، حيث من المقرر أن تبدأ الشركة العمل أوائل عام ٢٠٢١.. لذلك تنتهك سفينة الأبحاث الزلزالية التركية المجال البحرى لقبرص للمرة الألف فى غضون بضعة أشهر، فى الوقت الذى تعتمد حكومة نيكوس أناستاسيادس على حلفائها، مثل فرنسا، حيث التقى وزير الخارجية الفرنسى جان إيف لودريان نظيره القبرصى ليؤكد له تضامنه الكامل فى هذا السياق الهش.
كل ذلك يشير إلى أن تركيا تلعب على حافة الهاوية، وقد أضحت وحدها بلا حليف، اللهم إلا المنظمات الإسلاموية المتطرفة، التى ترضع أصلًا من ثدى النظام التركى، والتى يثيرها ويبهجها صراع إثنى، كالذى أشعلته تركيا فى القوقاز.. يعتمد أردوغان سياسة الضربات التكتيكية المتتالية، فى سوريا وليبيا وشرق البحر الأبيض المتوسط واليونان وقبرص والقوقاز، مستفيدًا، خلال الأشهر الأخيرة، بشكل كامل، من الأزمة المرتبطة بوباء كورونا ومن فك الارتباط الأمريكى، لتوسيع نفوذه، بالإضافة إلى أن هناك فراغًا جيوسياسيًا واضحًا، مع تراجع واشنطن عن منطقة الشرق الأوسط أكثر فأكثر.. وهذه نعمة لأنقرة.. ولكنها نعمة مؤقتة!.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.