رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أمومة مصلوبة «1»



«امْرَأَتُكَ مِثْلُ كَرْمَةٍ مُثْمِرَةٍ فِى جَوَانِبِ بَيْتِكَ. بَنُوكَ مِثْلُ غُرُوسِ الزَّيْتُونِ حَوْلَ مَائِدَتِكَ».
هى لم تكن يومًا كرمة، لكنها جعلت ابنى غروس حنظل، مرر آخر أيامى.. وأنا التى أدخلتها حياته.. كيف لقلبٍ أتحرى نقاءه، ألا يحبها؟ كثير أن أطلب منه أن يدق بعنف، أن ينقبض لمرأى طفلة صغيرة منيرة الوجه، وردية الخد، تبتسم لى وتقترب من حضنى فى نعومة وود، فأقربها من روحى وتكون ابنتى أرعاها إذا حضرت، وأشتاق لها إن غابت.
المحبة شرك.. المحبة فخ.. غمامة تخفى ما هو مرئى.. فى طابور الصباح رأيتها وقد صبغت أطراف شعرها بلون أحمر بنفسجى. الطبيعى أن أغضب لمخالفة الطالبة قواعد المدرسة، أخرجها من الطابور وأحولها لسير «ريتا» المسئولة عن المرحلة الثانوية، لكنى لم أفعل، وجدتنى أطوق كتفها.
- دى عملة يا مجنونة؟
لم ترد، لكنها صوبت ابتسامتها تجاهى، كمخدر تعلم أنه يسلبك وعيك، لكنك تستسلم له دون مقاومة سوى الرغبة فى المزيد من الخدر..
- اطلعى على الكلاس وهشوف مع ماما، نصلح الغلطة دى إزاى.
اعتبرت نفسى مسئولة عنها منذ أن اتصلت بى أمها، وطلبت أن أساعدها وأعدها لدخول مدرسة «الميردى ديو»، أحضرتها لبيتى، وجدتها ذكية، لا تكف عن السؤال، قدرتها على التقليد سهلت علىّ إعدادها، وجعلها تنطق الحروف والكلمات بلكنة فرنسية صحيحة.
واستمررت أتتبعها فى كل مراحلها، وتعمقت صلتى بوالدتها سلوى، وصارت بيننا صداقة، عوضت لى عدم إنجابى طفلة. رزقنى الرب بطفل، ولم أحمل بعدها.. آه من أمنيات القلب، آه مما يخايلنا ولا نصرح به، لا ينقصها إلا أن تكون مسيحية، تابعة ليسوع.. يسرى الفرح فى الروح، ويبتهج القلب لبعض تمردها، لكنى كنت أمينة معها، ولم أحاول، أو يرد لذهنى أن أحدثها عن المسيحية، التى كانت تحيط بها فى كل مكان، المدرسة، الأصدقاء، حتى سلوى تقول لى: إحنا مسيحيين، ديننا يجعل الإيمان بالمسيح جزءًا من الإسلام، أنتم اللى مش مسلمين.
فأضحك من قلبى الذى يتلوى الآن معصورًا مهروسًا من الألم..
فلتخش أحلام قلبك، القلب الغافل، المخدوع الذى لم ير ما تخبئه لى الأيام.. فأصير «مطرودة من ملكوت السماء من تنجب خرافًا ضالة، كأنها الحية تغوى آدم فيسقط ويسقط معه فردوسى ونعيمى»، ومن فعل بى هذا؟ وحيدى الذى ادخرته لأبديتى.. فكيف لم يحفظ لى أيامى، وأنزل قلبى فى الغم وأقام روحى فى الحزن، كنت أنتظر النعمة، البركة، فطاردتنى اللعنة، نذرته وهو فى بطنى راهبًا، آبًا وطافت روحى حول كل القديسين، مَن مِنهم أغضبته؟، أى نذر لم أوف؟، لأدخل التيه مع مشيبتى، يا الله، أى خسارة؟، صحيح أن «اَلابْنُ لاَ يَحْمِلُ مِنْ إِثْمِ الأَبِ، وَالأَبُ لاَ يَحْمِلُ مِنْ إِثْمِ الابْنِ. بِرُّ الْبَارِّ عَلَيْهِ يَكُونُ، وَشَرُّ الشِّرِّيرِ عَلَيْهِ يَكُونُ»، «لكن الشر حين يخرج من أحشائنا نشك فى هذه الأحشاء وفى أنفسنا، وفى.. وفى..».
لماذا لا تترك هى دينها؟ لا تتركه، فلتترك ابنى لدينه، لكنها ليست الخاطئة، الخطيئة حملتها فى أحشائى وأرضعتها سنواتى وتعبى، كل الصلوات والهمسات والتراتيل، كل الأشياء كانت من أجلك، فجآنى الحزن، من حيث انتظرت الفرح، تذللت له، لكنى كنت أعرف من عينيه، من نظراته أنه مسحور، وكانت الطامة، حين همس لى أنه سيسلم على الورق، لكنه سيأتى للتناول والصلاة، يا لـ عارى أى وضيع أنجبت؟ وماذا عن القلب؟ قلبه معها، ليس مع الرب أو مع محمد، قلبه معها، مع الحية، ملعون ومطرود.
«اَلْحَافِظُ الشَّرِيعَةَ هُوَ ابْنٌ فَهِيمٌ، وَصَاحِبُ الْمُسْرِفِينَ يُخْجِلُ أَبَاهُ» لو أنه اقتنع بدين محمد، لرضيت، لا لم أكن سأرضى كنت سأقبل اختياره، شاق أن تدفن أمٌ ابنًا.. وأنا أدفن ابنى مرتين.. آه.. آه «أبو الصدّيق يبتهج ابتهاجًا ومن ولد حكيمًا يسرّ به أبواه.. يتزوج مسلمة! أى خلطة للبر والإثم؟ وأى شركة للنور مع الظلمة؟».
سنوات وأنا أضع يدى على رأسه.. وأتوسل به له.. هذه الأيام كلما رأيته.. كلما زاد شقاقنا وابتعادنا.. دون إرادة أتوسل إليه «صل، ادعُ الله، ناجه: يا رب.. ساعدنى لمعرفة الحقيقة، ساعدنى لمعرفة الخطأ. ساعدنى لمعرفة الطريق الصحيح للخلاص..» لا يزيده توسلى إلا نفورًا.
ألم يسمع «وباحتمالك هفوات أمك تجزى خيرًا»، لكن أى هفوات كانت تلك؟ أيها القديسون، ما تخبئه النفس ينكشف بمرور الأيام، والأزمنة الصعبة لا محالة قادمة.. فارحم يا رب.