رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الجيل الذى حارب من أجل الحرب


نعيش هذه الأيام نسائم الذكرى العطرة لعبور قواتنا المسلحة خط «بارليف» المنيع، وتجاوز الآثار الخطيرة لنكسة ٥ يونيو ١٩٦٧، والتى شكلت عبئًا نفسيًا وماديًا هائلًا، وقع على كاهل الجيش والشعب معًا.
لقد اقتضى الأمر جهدًا أسطوريًا لتجاوز الوضع الحرج، الذى وجدت فيه مصر نفسها، تواجه، بالصدر الأعزل عدوًا غادرًا، متجبرًا، متنمرًا، بعد أن تم تدمير مكامن قوتها العسكرية على الأرض، دون أن تتاح الفرصة أمامها لمواجهة مُتكافئة على أى مستوى مع العدو.
وكان عليها فى غضون ست سنوات لا أكثر، أن تلملم جراحها النازفة، وأن تواجه عدوانًا مستمرًا استهدف البشر والحجر، ووجّه آلة حربه الغاشمة لتخريب كل أوجه الحياة على الأرض المصرية: البنية الأساسية، والمرافق، والمصانع، والمعامل، والمدارس، والمدن؛ يريد أن يجهز على إرادتها، وأن ينهى مقاومتها مرة وإلى الأبد، وأن يجبرها على الركوع وإعلان قبول الهزيمة، وأن يفرض عليها بقوة القهر الإذعان لسطوة الأمر الواقع، ورفع راية الاستسلام حتى لا تقوم لها قائمة من بعد.
فى تلك اللحظة الحرجة الرجراجة، بين اليأس والرجاء. بين الوهم والأمل، بين الإحباط والتفاؤل، برز معدن الشعب المصرى الأصيل، الذى أسمع الدنيا صوته الواحد، وهو يقول بعزم إرادته: لن نستسلم، وسنقاتل إلى آخر نفس، ولن تسقط رايتنا مهما كانت التضحيات.
وما كان لجيشنا الذى كان يضمد جراحه، أن يستعيد توازنه بسرعة، وأن يبنى حائط الصواريخ الرادع، وأن يحمى سماء الوطن ومدنه وقراه من عربدة الطائرات الصهيونية التى راحت تصول وتجول قبل أن تجد من يوقفها عند حدها، إلا بصمود الجماهير المصرية، وتماسك الجبهة الداخلية الصلبة، التى لم تهزها فداحة الخطب، ولا أوهن إرادتها عظم التضحيات، والتى تحملت فى بطولة نادرة أعباء إعادة بناء القوات المسلحة، دون شكوى أو تململ، لأنها كانت تدرك أبعاد المؤامرة الصهيونية الأمريكية على مصر وشعبها، وهى أقسمت ألا تُحقق لأعدائها ما رتبوه لها من مذلة وانكسار.
لقد دفع عمال مصر وفلاحوها وبسطاؤها، من قوت يومهم وعرق جبينهم، بل ومن دمائهم الأبية الزكية، ما أتاح لأبنائهم فى القوات المسلحة أن يستردوا قدرتهم على المبادرة والهجوم، وتحمل القطاع العام، الذى كان يعمل بكل قواه، دورًا عظيمًا، لمد البلاد والجيش بحاجاتهما الحيوية الأساسية، رغم الضائقة الاقتصادية التى ترتبت على الحرب ونتائجها، وبدا واضحًا للمراقب المدقق أن مصر شكلت جسدًا هائلًا ينبض بالعنفوان والإرادة، تحركه غاية واحدة: تحرير التراب الوطنى وطرد الاحتلال.
وفى القلب من هذا الجسد كان الطلاب والشباب، الجيل الذى آمن بالأهداف الكبرى المطروحة: التحرر الوطنى، والاستقلال، والتقدم الاقتصادى والاجتماعى، والاشتراكية والحرية، فاستيقظ على انكسار الحلم، وتبدد الأمل، لكنه لم ييأس، وإنما اندفع بكل طاقته لكى يدافع عن حلمه، وانتفض على مدى هذه السنوات الست، ما بين لحظتين تاريخيتين فارقتين: ٥ يونيو ١٩٦٧، و٦ أكتوبر ١٩٧٣، مُطالبًا بالثأر، مُصرًا على تطهير التراب الوطنى من رجس الاحتلال الصهيونى البغيض.
قد لا يعرف الكثيرون من أبناء هذا الجيل، ما فعله أجدادهم وآباؤهم، ممَن كانوا فى تلك الفترة فى مثل أعمارهم، لقد تنازلوا طواعية عن كل ما يشغل أمثالهم فى العالم كله، من طلب للهو البرىء، والتطلع للاستمتاع بالحياة، أو بحث عن عمل مناسب يُدر المال ويرفع المكانة، وصارت مهمتهم الأولى والأخيرة، أن يدفعوا باتجاه تجاوز الهزيمة، ولحنهم الأساسى فى كل حين: أغنية الملحن والمغنى العظيم، الشيخ «إمام عيسى»، التى صاغها بكلماته الباقية شاعرنا الكبير «أحمد فؤاد نجم»:
«مصر يا أمة يا سفينة، مهما كان البحر عاتى فلاحينيك ملاحينيك يزعقوا للريح يواتى اللى ع الدفة صنايعى، واللى ع المجداف زناتى واللى فوق الصارى كاشف كل ماضى وكل آتى عُقدتين والتالته تابتة تركبى الموجة العفية توصلى بر السلامة معجبانية وصبية.. يا بهية».
ومن مصادر فخرى واعتزازى أنى كنت واحدًا من هذا الجيل، الذى وهب عمره كله لهذا الوطن، حاربنا العدو الغادر بالوعى والمعرفة والفكر والسلاح، واخترنا أن نراهن على الفجر المقبل، رغم قتامة اللحظة، وتربص جنود الظلام.