رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«الشهيد الحي».. رحلة «سعيد» من النكسة إلى نصر أكتوبر

محمود
محمود

«أموت شهيد أحسن من أني أعيش دون تاري».. بهذه الجملة بدأ بطل حرب أكتوبر سعيد محمود (من سكان حي كرموز بالإسكندرية) حكاياته عن ذكريات النصر المجيد.

تخرج «محمود» من قسم الإعلام بكلية الآداب في جامعة الإسكندرية، ليبدأ رحلة جديدة تغيير مصير حياته، حيث ذهب إلى وحدة التجنيد لتقديم أوراقه لتأدية الخدمة العسكرية، فتقرر اللجنة إدخاله في سلاح الجو، وذهب إلى مقر الكلية الحربية الجوية لتلقي التدريبات اللازمة وخاض عدد من الاختبارات العملية والتحريرية.

انتقل بعد ذلك إلى قسم الأرشيف الذي قرر فيه أن يكتشف جميع الأسرار التي لم يكن يعلم عنها أي شيء، حيث شاهد أحد الملفات التي غيرت سير حياته الهادئة وحمل اسم «ضحايا النكسة» وكان عبارة عن ألبوم صور ومجموعة من الخطابات الممزقة.

وقال «سعيد» إنه رأى صورة لمجموعة من جنودنا البواسل مكبلين الأيدي وملقون على الأرض لتدوس عليهم دبابة برمائية، ومرفق بها خطاب لأحد الجنود كتب فيه «كنت أستمع إلى أصوات تهشم جماجمهم»، وأخرى لجندي عار تمامًا، جرده جنود الاحتلال من ملابسه وربطوه بحبل وأخذوا يسحلوه في الصحراء لينتهي الأمر بذبحه.

«كنت أرى الصور ودمي يغلي»، كلمات قالها سعيد للتعبير عن الشعور الذي اتنابه حين رأى الصور، فهَم بعدها لتوجيه طلب لقائده يطلب منه أن يدفع به للجبهة، إلا أنه رفض في البداية وأخبره أن مكانه في الأرشيف أكثر أمنًا؛ لكنه رفض الأمر وتوسل إليه للذهاب، وبعد أيام وافق قائده ورحل كضابط في «البلونات الحديدية» بسلاح الجو.

وأضاف أنه بمجرد أن رأى علم المُحتل على الجبهة المقابلة كان يفكر أن يغطس في مياه القناة ويذهب لخلع العلم والدهس عليه، إلا أن القائد طلب منه أن يتماسك ويلتزم بالتعليمات، ليتولى قيادة موقع 3 بلونات المواجهة للعدو مباشرًة، التي تكمن مهمتها في تعتيم رؤية الممرات الخاصة بالطائرات وحمايتها من تولي الصواريخ.

وأوضح أن هذا السلاح تكون مهمته عبارة عن أمريين تغيير مدار الصواريخ في حال إطلاقها على الطائرات من خلال بلونات الهليوم التي تطرد غازها بضغطه زر، فبدلًا من أن يسقط الصاروخ على الهدف يسقط على المساحات الرملية، بالإضافة إلى تأمين ممرات الطائرات خلال إقلاعها وعودتها وإخفائها عن أعين طائرات العدو.

وتابع: «بدأت عملية التضليل عن الحرب في الخامس من أكتوبر، إذ جاءت التعليمات بلعب الكرة على البحر وخلع الخوذ على الجبهة وترك السلاح، وظللنا على هذا الحال يومًا كاملًا، حتى جاءت التعلميات الثانية في تمام الساعة التاسعة ونصف في صباح 6 أكتوبر، التي أخبرنا بها قائد الوحدة 3 قائد طيار إموريس مخائيل أن قرار الحرب قد أخذ ولا سبيل عنه لإنهاء حالة الجمود العسكري، وأن يبلغ الجنود بالتأهب لتدريبات عسكرية طارئة، ستشهد خسائر بشرية قد تصل إلى 25 % لينتهي الاجتماع في العاشرة تمامًا.

وخرج كل قائد وضابط لجنوده ليخبرهم أن يستعدوا في هذا الوقت خلال طرح التعليمات، كان هناك سؤال واحد يقصه الجميع على بعضهم «من سيستشهد أولًا؟».

بعد توجيه التعليمات، وجد سعيد صديقه يوسف الذي كان نائبًا له في الوحدة يسأله عن حاله، ويسأله عن نظرات التوتر التي تعلو جبهته، ليضمه إلى صدره ويطلب منه أن يكون بخير، وأن يلوذ بنفسه في منطقة آمنة يواجه فيها دون أن يكون في مرمي النار.

واستكمل: «لم يتوقع أحد تكون ساعة الصفر الساعة إثنان وخمسة ظهرًأ، ففي اللحظة التي يتم فيها إستلام إشارة ساعة الصفر على الأجهزة اللاسلكية وجدوا الطائرات قادمة من القاهرة ومن كل القواعد الجوية في مصر إلى سيناء تطير فوق روؤسهم، مضيفًا: «تركت في الوحدة 3 جنود فقط وفررت مع جنود المشاة ليكون العبور مجيدًا بحشود ما يقهقر العدو، ومنذ هذه اللحظة بدأت الحرب حتى يوم 22 أكتوبر، كانت مهمة الوحدة حينها حماية الجيش الثالث الميداني من الهجمات، وفي يوم 12 أكتوبر هبط سلاح المظلات على الوحدة وبدأ في شن هجوم شرس على الجنود في مواقعهم بعد التسلل من بعد الفجوات التي خلقت نتيجة التوسع في الجبهة بعد يوم السادس من أكتوبر».

واستطرد: «الوحدة قررت مواجهة الدخلاء والاشتباك معهم في هذه اللحظة، وأصيب صديق عمري يوسف بسبع طلقات في الرقبة، وفي اللحظة اللي شوفته فيها كان مترنح بتطلع في الروح، وماسك الرشاش وموجهه في صدر الجنود؛ ليصيب ثلاث جنود ورسم الابتسامة على وجهه واستشهد».

هَم حينها «سعيد» ليمل صديقه على كتفه بعدما كادت رقبته أن تنفصل عنه؛ لحمايته من الخطف على يد جنود الاحتلال لتصويره في تل أبيب والتمثيل بالجثمان، ليضربه طيار العدوان بالطلاقات وعلى ظهره الجثة التي تلقت 3 رصاصات بدلًا عنه، كما أصيب «سعيد» بطلقتين في مفصل الكوع.

بعد هدوء الوضع والسيطرة على الموقع دخلت سيارة الإسعاف لحمل المصابين الذين بلغ أعدادهم 6 مصابين، إلا أن طيران العدو لم يلتزم بقرار وقف إطلاق النيران على القوافل الطبية، وضرب سيارة الإسعاف بصاروخ جو بر، لتنفجر ويستشهد كل من فيها إلا أن سعيد كان المقاتل الوحيد غير المربوط في المقعد ما جعل جسده يهوى ليرتطم بصخره كبيرة تفتح رأسه، وعدة شظايا في الحوض إثر إصابته.

وتابع أنه ظل 3 أيام ينزف في الصحراء حتى وجده أحد القادة العسكريين على الطريق خلال مروره في جوله تفقدية، ومن ثم أخذوه إلى المستشفى العسكري الميداني بمدينة السويس، ومكث حينها 8 أيام في غرفة العناية المركزة، وفي الليلة الآخيرة توقف قلبه عن الدق وظنوا أنه استشهد حاملًا لقب رقم «4440».

ومن ثم بدأت عادات الدفن المتبعة، وجهزوه في الكفن ولم يكن متاحا أن يوضع في كيس بلاستيكي مخصص لحفظ الجثث، ولفوه بغطاء سرير.

وبعد 3 أيام جاءت سيارة نقل الموتي وخلال حمل الجثمان وجدوا جثته ساخنة ما جعل السائق يخبر الطبيب أن هناك شخص ما على قيد الحياة، وبالفعل جاء الطبيب ووقع الكشف الطبي، فوجد أن قلبه قد عاد من جديد للعمل، وعلى الفور وجهه إلى غرفة الإنعاش وظل فيها 4 أيام ليعود للحياة بشكل طبيعي.

بعدها نقل إلى مستشفى السلاح الجوي العسكري، ليكون في استقباله العقيد الطبيب محمد أحمد رامي، والد الشاعر الكبير أحمد رامي ويبدأ في علاجه، كان حينها إصابة يديه قد مر عليها وقت طويل، وشخصها الأطباء أنه يجب بترها، إلا أنه سحب الملف وكتب فيه «اليد التي حملت السلاح لتحرير الوطن وردت لنا كرامتنا لن تقطع أبدًا لكن يجب أن نقبلها»، وبالفعل تم علاجه ولم تبتر يده، وزاره عدد كبير من الفنانين والشعراء على رأسهم أم كلتوم وشادية، وعاد لكرموز وسط حفاوة شعبية كبيرة.