رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

التعليم والتلعيم «1-3»


مع بداية العام الدراسى يدور فى ذهنى سؤال، ما الذى نريده من ذهاب أبنائنا إلى المدارس؟ ما الذى نريده من تعليم أبنائنا؟ أو الأدق ما الذى نريد أن يتعلمه أبناؤنا؟ هل نريد لهم حقًا أن يتعلموا؟ أم نريد أن يمر عام من عمرهم وينتقلوا من صف لآخر؟ أن نؤدى ما علينا فحسب وتنتهى مهمتنا بحصولهم على شهادة بغض النظر عن كونهم تعلموا أم لا؟
والسؤال الأهم لماذا تبدو العملية التعليمية ثقيلة؟ مرهقة؟ لماذا تبدو كنتوء، كحدبة نحملها على ظهورنا؟
هل نبالغ فى الأمر؟ هل نحن لا نعرف ما الذى نريده فنتخبط فى دوائر تستنزف طاقتنا؟
سوف تصرخ أم بغضب، وهى الحالة العامة لأولياء الأمور: أريد أن تنجح ابنتى ابنى.
هل ما تقوله حقيقة؟ لا أستطيع أن أتهم أمًا بقول الكذب.. الأمهات أقدس عندى من ذلك، لكن هى محبطة ولديها التزامات كثيرة وطموحات أكبر.. إذا كنا نريد أن ينجح أبناؤنا فالأمر يسير، لا يستدعى كل هذا الجهد والغضب، النجاح يتطلب الحصول على ٥٠٪ وهى درجة يمكن أن يحصل عليها الطالب المتوسط الجهد، المتوسط الذكاء.. لكن كل الأمهات يردن أن يفوز أبناؤهن فى سباق الدرجات.. فى سباق الترتيب على الفصل، المدرسة، الجمهورية.
ما يثبت صحة زعمى أننا مررنا بتجربة فى العام الدراسى السابق، وهى أن التقييم النهائى سيكون فى شكل بحث، وأى عاقل يعرف مقدمًا أن الأولاد سينجحون بمجرد تقديم البحث، وأن البحث مادته متوفرة فى الكتاب المدرسى أو على منصة التعليم. فما الذى يحوِّل محاولة التيسير على أولياء الأمور إلى عملية تستنزف أموال الأهالى وتسبب ضغطًا ولغطًا وحيرة ونقمة و..
السبب ببساطة أننا لا نريد تعليم أبنائنا، نحن نريد لهم أن ينجحوا فحسب، لو أننا نريد لهم التعلم لتركناهم يخوضون التجربة الجديدة وردمنا على كل تقاليدنا البالية الخاصة بالصَم والحفظ والتلقين التى نشتكى منها طوال الوقت. ما الذى كان سيحدث إذا اعتمد أولادنا على أنفسهم وحاولوا ونجحوا فتعلموا، أو أخفقوا وكرروا المحاولة فتعلموا أيضًا.
لكن الكثيرين منّا أضاعوا الفرصة الذهبية عندما مرت علينا، وتمسكوا بأساليبنا البالية التى تخنقنا وتكبلنا.. ولجأوا لشراء الأبحاث الجاهزة، المُعدَّة سلفًا، لم تعد العملية التعليمية قيمة، بل أصبحت سوقًا للعرض والطلب، والمدرسون يعطون للطلبة وأولياء أمورهم ما يريدون، لا ما يحتاجون.
إن الهدف من أى عملية تعليمية هى تنمية مهارة الإنسان، أن نُعرفه كيفية استخدام العقل والمنطق، وإذا تعلم الطفل ذلك اكتسب الفهم والحكمة والقدرة على مواجهة المتغيرات والتجارب التى لم يمر بها، لأن كل ما فى الكون أيًا ما يكون يحتاج عند تعاملنا معه إلى الفهم والحكمة.
تطرح بعض الأمهات أسئلة من نوعية: هل يقرأ ابنى القصة المقررة فى مادة الدين الإسلامى؟ هل يحفظ نصوص الشعر المقررة فى اللغة العربية؟ هل يحفظ عناصر الجدول الدورى؟ لماذا نجهد الطالب ونثقل عليه بمعلومات كثيرة وفى آخر الترم سيكون التقييم ببحث يمكن جمع مادته من الكتاب؟
هذه الأسئلة تدق أجراس خطر، وتطلق صافرات إنذار لمصائب وخراب فى الذهنية التى تطرحها، إنها تعنى ببساطة أن التعليم لا يعنينا، بل ما يشغلنا كيفية مرور العام الدراسى والانتقال لعام آخر. لا يهم إن استفاد ابنى أو لم يستفد، أبناؤنا يكبرون فى الظاهر، تنموا عظامهم وعضلاتهم وتنموا لديهم مهارات الاحتيال والمراوغة، فى حين تضمحل مهارات الحفظ والاستنباط والتحليل والتفسير.
أن يجهد الطالب نفسه فى المذاكرة هذا ليس عقابًا، هذا جزء من العملية التعليمية، إجهاد الطالب فى المذاكرة مثل إجهاد العضلات فى الجيم لتضخيمها وتكبيرها، بدون هذا الإجهاد يظل العقل رخوًا، بدائيًا، طفيليًا. الحفظ وتنمية الذاكرة جزء من أساسيات التعلم، الحفظ ليس سبة، الحفظ والتذكر واسترجاع ما تم حفظه مهارة يجب تطويرها من أجل تنمية خلايا المخ، التدرب على مواجهة مواقف صعبة، أفكار ومعلومات جديدة، ثم استيعابها وتفهم تطبيقاتها، هو ما يجعل الطالب يرتقى ذهنيًا ونفسيًا وإلا سيظل غرًا، جاهلًا، يسهل خداعه، بأى كلام عاطفى وإن كان لا يمت للمنطق بصلة.
وما يتم حاليًا لا يمت للتعليم بصلة لكنه شىء يمكن أن نطلق عليه «التلعيم»، حيث كل شىء يفقد دلالته ومعناه ويصبح الهدف مجرد سد الخانات، والنتيجة مزيد من الجهل والتخلف والرجعية على كل المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ولن تنتج عملية «التلعيم» سوى المزيد من مندوبى البضائع المستوردة، والجالسين الثوريين على نواصى الحياة والعالم الافتراضى، أما المصانع والمعامل والتصميمات والاختراعات فهذه تحتاج لمتعلمين لا لمتلعمين.
وللحديث بقية.