رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الغيوم المسمومة فى سماء المشهد السورى


الانفجار الذى وقع فى يونيو الماضى جرّاء زرع عبوة ناسفة كبيرة، استهدفت حافلة تُقل مقاتلين تابعين لـ«اللواء الثامن» التابع للفيلق الخامس، أثار حينها أكبر حركة احتجاجية فى المنطقة، فضلًا عما قام بطرحه من أسئلة تتعلق، بمساحات النفوذ التى صارت روسيا تتحكم فيها فى مناطق جديدة لم يكن أحد يدرك أنها ستصل إليها يومًا.
فهذه الاحتجاجات التى وقعت فى مدينة «بصرى الشام» باعتبارها مقر ذلك اللواء بالفيلق الخامس، ندد فيها المحتجون بدور إيران و«حزب الله» فى محافظة درعا، نتيجة معلومات أكدت وقوف ميليشيات محسوبة على إيران خلف هذا الهجوم. لكن ما هو موقع روسيا من هذا الأمر، ولماذا فى درعا على وجه الخصوص استهدف هذا اللواء، ومن القائمون عليه وداعموه؟، ربما محاولة الاقتراب من إجابة تلك الأسئلة وغيرها تسهم فى رسم خريطة نفوذ جديدة تشكلها موسكو بعيدًا عن العيون، لكن هناك من أزعجته خطوط تلك الخرائط التى باتت تخصم وتتوغل، فيما ظل مستقرًا لسنوات على الأراضى السورية.
الفيلق الخامس السالف ذكره من أكبر المكونات العسكرية الخاضعة لسيطرة العسكريين الروس الموجودين بسوريا، وقائده الحالى «أحمد العودة» هو القائد العسكرى الوحيد من صفوف ما تسمى بالمعارضة المسلحة، الذى استفاد من مرحلة ما بعد سيطرة النظام على المناطق الثائرة فى سوريا باعتباره يملك مفاتيح التأييد الشعبى لأهل «حوران»، فى مهمة إخراج الميليشيات الشيعية من المحافظة والذى تعهدت به روسيا بعد نجاحها فى السيطرة على محافظتى «درعا» و«القنيطرة». لذلك ذهب الاتهام سريعًا فى التفجير الذى أصاب «اللواء الثامن» بحق إيران و«حزب الله»، باعتبارهما المستفيدين الوحيدين من تلك العملية، إذ إن «اللواء الثامن» يعيق خططهما فى إقامة وجود طويل الأمد فى «درعا»، خاصة أن معظم عناصر اللواء هم من المعارضين السابقين، ويُكنون العداء لإيران وللميليشيات المرتبطة بها.
حيث يرى الجانب الإيرانى أن إضعاف «اللواء الثامن»؛ سيعزز فاعلية تلك الميليشيات شرقى «حوران» ويمكنها من تنفيذ إعادة انتشارها فى محيط «بصرى الشام» التى ظلت المركز الرئيسى للشيعة فى جنوب سوريا، قبل أن يتم إجلاؤهم منها على أيدى المعارضة المسلحة السنية بالطبع. ولذلك أيضًا فسر الهجوم الذى تعرضت له الحافلة، باعتباره قطعًا للطريق على عملية تدريب عدد كبير من المنشقين، الذين يسعون لاجتثاث إيران وحزب الله من محافظة «درعا».
هؤلاء المنشقون يقدرون بنحو «٧٠٠٠ شاب» وفق دراسة نشرها «معهد الشرق الأوسط» الأمريكى، حددت بأنهم من أهالى «درعا» ومتخلفون عن الخدمة العسكرية بالجيش السورى، وقاموا بديلًا عن ذلك بالانخراط فى صفوف «اللواء الثامن»، الأمر الذى أثار سخطًا كبيرًا فى صفوف الجيش السورى وأجهزته الأمنية، إذ رأوا أن ذلك يعزز من النفوذ الروسى كونه يسيطر على هذا المكون المسلح، ويضعف من سيطرة الأجهزة الرسمية للنظام، ويشكل فى الوقت نفسه تهديدًا مباشرًا لحلفائهم الإيرانيين.
وفق المؤكد حتى الآن على الأقل، فإن إيران لا تفكر فى الخروج من سوريا، بل هى مصممة على البقاء والتمدد، حيث يضغط «الحرس الثورى» بقوة على الرئيس «حسن روحانى» بضرورة الاستمرار فى توجيه البوصلة الإيرانية نحو سوريا، رغم تنامى الهجمات الأمريكية والإسرائيلية، فضلًا عن الضغوط السياسية والاقتصادية التى تتعرض لها كل من إيران وسوريا. فتطبيق «قانون قيصر» الأمريكى يأتى بالتزامن مع انهيار الاقتصاد السورى، كرسالة واضحة للعالم العربى والأطراف الإقليمية بأن واشنطن لن تتسامح مع أى من أشكال التطبيع مع النظام السورى الحالى، وأن سياسة «الضغط الأقصى» قد تمددت من إيران وفرض حزم العقوبات ووصلت الآن إلى سوريا. لذلك فعلى صعيد موازٍ من ضغوط «الحرس الثورى» على نظامه الداخلى، يقوم فى الآونة الأخيرة بإعادة تشكيل جبهة من الميليشيات الموالية له، على شكل «هلال» يمتد من «الناقورة» فى لبنان حتى المثلث الأخطر، وهو التقاء الحدود السورية اللبنانية الإسرائيلية، حتى يؤكد هو الآخر من جانبه أن القيادة الإيرانية ماضية فى تعزيز وجودها العسكرى فى سوريا. ومما يثير فى ذلك أن طهران ورغم ما تواجهه من مصاعب اقتصادية، إلا أنها مستمرة فى ضخ مليارات الدولارات وإرسال عشرات الآلاف من المقاتلين لخوض معركة لا رجعة عن إكمالها، فإيران ليست لديها خطة بديلة «ب» فى حال إخفاقها، لذلك يعمل النظام الإيرانى فى الوقت الحالى على وضع الترتيبات اللازمة لمساعدة النظام السورى فى الالتفاف على العقوبات الإضافية، التى فرضها «قانون قيصر» مؤخرًا، خاصة بعد أن نجحت فى إرسال شحنات من النفط إلى فنزويلا متحدية بذلك الولايات المتحدة، ومؤكدة قدرتها على التمدد والانتشار عبر طرق التفافيه بديلة.
إسرائيل والحاضرة بالضرورة فى هذا المشهد، تعتبر وتروج طوال الوقت بأن الوجود الإيرانى فى سوريا يمثل تهديدًا وجوديًا لها. فى مقابل طرف المعادلة الآخر تعتبر إيران وجودها فى سوريا أحد أهم أركان أمنها القومى، لذلك يبقى المرشح فى الأيام المقبلة أن تشهد الساحة السورية المزيد من الاضطراب الناتج عن اتساع الفجوة، بين ما تريده إيران وما تسعى إسرائيل إلى تحقيقه.
تل أبيب ما زالت ماضية فى سياسة «جز العشب» عبر إبقاء الضغط على القوات الإيرانية حاضرًا طوال الوقت، حيث يواصل سلاح الجو الإسرائيلى غاراته على المواقع الرئيسية للميليشيات الموالية إيران، واستهداف القوافل التى تحمل معدات إلى «حزب الله»، خاصة فى الجنوب السورى القريب من مناطق التماس مع الحدود الإسرائيلية. وفى هذا الأمر تبدو الصورة محملة بأكبر قدر من الغيوم، حول طبيعة انتشار الميليشيات، وإعادة ترسيم خرائط النفوذ مع استعادة استثمار المسرح السورى للتنفيس عن حالات الاختناق فى الملفات الأخرى، وهو ما يهدد بجر الأوضاع إلى هاوية فصل جديد غير واضح المعالم حتى اللحظة.