رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عصام زكريا يكتب: سيرة القلب.. ذكريات عن الثقافة والفن والحب فى نصف قرن (الحلقة الثانية)

عصام زكريا
عصام زكريا

كلما تقدم الإنسان فى العمر أدرك بشكل أفضل مقولة الفيلسوف اليونانى هيرقليطس: «إنك لا تنزل إلى النهر نفسه مرتين»!
لا ينطبق الأمر على الأنهار فقط. النهر هو استعارة للحياة، والمرء حين يولد وينزل إلى نهر الحياة، فهذا النهر وهذه الحياة لا يشبهان أى نهر أو حياة أخرى.
لو ولد المرء قبل، أو بعد، سنوات من موعده، لعاش حياة مختلفة تمامًا، ولو ولد فى شارع غير الذى ولد فيه، لربما تبدل شكل حياته كلية.
يقول أهل الفلك إن مصائرنا تخضع لحركة نجوم المجرة حولنا، وإن هذه الحركة تؤثر على شخصية وحياة كل منا تأثيرًا حاسمًا من خلال نوع برجه، الذى يتحدد بتاريخ مولده، بالشهر والعام، وحتى اليوم والساعة، اللذين يولد فيهما، والمكان الذى يولد فيه على الأرض.
ولدت فى بداية فبراير، أى فى منتصف برج «الدلو»، الذى يجمع خبراء الفلك أن مواليده هوائيون، فنانون، غريبو الأطوار.
من أعجب الألغاز، التى لم أجد لها حلًا أو تفسيرًا حتى الآن، هى الكيفية التى تصدق بها الصفات الفلكية لكل برج غالبًا، بالرغم من أن «علم الفلك»، مثل الكثير من المعتقدات الكبيرة والصغيرة، مثل قراءة الكف والفنجال، ووجود الجن والأشباح، لم تستطع أن تدخل رأسى أبدًا، حتى فى طفولتى المبكرة.
ربما كنت فى الرابعة من العمر أو أقل، عندما قامت إحدى جاراتنا بوضع حلة فوق رأسها ثم غطت رأسها وجسمها بملاءة سرير بيضاء وتسللت من المطبخ على هيئة العفريت «أبوكابيتو» الذى كانوا يخيفون به الأطفال أيامها، حتى أكف عن البكاء أو «الزن»، الذى كنت معتادًا عليه فى طفولتى المبكرة، حسب الروايات العائلية المتداولة. ولكن الجارة المسكينة تعرضت لوابل من الشباشب والأحذية وأنا أطاردها صائحًا: «إمشى يا أبوكابيتو يا ابن الكلب!».
فى مراهقتى، وحسمًا لموضوع الأشباح والأرواح وخلافه، توجهت ذات لية إلى المقابر والسير حولها للتأكد من حقيقة هذه «العفاريت» التى يتحدثون عنها، ولم أر شيئا بالطبع.. وظلت معظم هذه الظواهر ألغازًا تحيرنى إلى أن تعمقت فى قراءة علم النفس، وعلم نفس الظواهر غير الطبيعية، وعرفت أن معظمها، من «ركوب العفاريت لأجساد النساء» إلى «زيارات الكائنات الفضائية للأرض» هى أعراض لأمراض نفسية فردية، أو جمعية، وأن 25% من الناس تقريبًا معرضون لرؤية وسماع هلاوس بصرية وسمعية.. وأن حواسنا لا يمكن الاعتماد عليها أو الوثوق فيها معظم الوقت.. وهو موضوع يطول الحديث فيه، لا مجال له هنا.
«عفاريت» طفولتى كانوا من نوع آخر، من الورق الملون برسومات الأبطال الخارقين والعاديين من شخصيات مجلات «الكوميكس»! فقد تصادف أننى تعلمت وأحببت القراءة فى عز العصر الذهبى لمجلات الكوميكس.
أول مجلة «كوميكس» للأطفال ظهرت فى مصر كانت «سندباد»، التى صدرت فى بداية الخمسينيات وتوقفت عن الصدور بعد أقل من عشر سنوات، وكان يرسمها الفنان العظيم بيكار، ومعه رخا وزهدى أحيانًا، وهذه لم ألحق بها إلا كأعداد قديمة «سكند هاند».. ولكن مع بداية الستينيات وحتى منتصف السبعينيات انتشرت عشرات المجلات المصورة فى مصر والعالم العربى.. ومن العجيب ملاحظة أن كثيرًا من أبطال هذه المجلات القديمة عادوا ليحتلوا خيال وحياة أطفال اليوم من خلال الأفلام وألعاب الفيديو.
صدر العدد الأول من مجلة «سمير» عن «دار الهلال» 1956، وأعقبه صدور «ميكى» باللغة العربية 1959، كما صدرت «سوبرمان» فى لبنان عن «دار المطبوعات المصورة» 1964 ثم لحق بها عدد كبير من «المجلات المصورة»، كما كان يطلق عليها، مثل «باتمان»، «البرق»، «لولو وطبوش»، «بونانزا»، «طارق» وغيرها.. قبل أن تظهر الطبعة العربية من مجلة «تان تان» 1971 التى كانت تضم مغامرات الكثيرين من أبطال مجلة «سمير» بأسمائهم الأصلية، لتسحب البساط من معظم المجلات الأخرى بطباعتها الفاخرة التى لا تقارن بأى مجلة أخرى، وعدد صفحاتها الأكثر، وحجم صفحتها الأكبر.
وهكذا قضيت طفولتى غارقًا وسط أعداد هذه المجلات وشخصياتها وعوالمها المتنوعة. كانت «سمير» أحب المجلات إلى قلبى، بفضل تنوع أبطالها وقصصها، وهم خليط من شخصيات مصرية أصلية وشخصيات مقتبسة من المجلات العالمية، ومعظم هؤلاء انتقلوا أو تحولوا إلى مجلات مستقلة بعد ذلك مثل «ميكى» و«تان تان». وأكثر من كنت أحبهم فى مجلة «سمير» من أبطال المغامرات «جاسر» و«تان تان» (المترجمين) و«باسل» (التى يرسمها الأرمنى المصرى بيرنى)، ومن القصص الكوميدية «تنابلة السلطان»، التى يرسمها حجازى و«زغلول أفندى»، التى يرسمها اللباد.. بالطبع لم أكن أعرف أيًا من هؤلاء الرسامين فى ذلك الوقت، ولكن خطوطهم وألوانهم وشخصياتهم دخلت الوجدان بلا عودة.
فى هذه المجلات كان من الصعب تمييز الأبطال المصريين عن غيرهم من الأبطال الأجانب «المترجمين». «جاسر» مثلًا اسمه الأصلى «ريك هوشيه»، و«بطوط» اسمه «دونالد داك» و«بندق» اسمه «جوفى» و«نبيل» هو كلارك كينت أو سوبرمان، أما «صبحى» فهو بروس وين» أو «باتمان»..!
فى الفصل، أثناء فترات «الفسحة»، أو حتى أثناء تلقى الدروس، كنت أملأ الكراسات برسومات قصص جديدة من تأليفى بأقلام الخشب الملونة. أذكر بشكل خاص اللون البنى الفاتح الذى أستخدمه لرسم شعر «جاسر» و«النمش» الذى يصبغ وجهه، وكذلك سيارته «الفولكس فاجن الخنفسة» الحمراء، وسترة بدلته المنقطة بالأبيض والأسود.إلى الآن أحب الفولكس فاجن، ودائما لدى جاكت منقط أبيض وأسود، كلما بلى أحدها اشتريت واحدًا جديدًا!.
أذكر أيضا اندهاشى ومحاولتى تقليد الخطوط الزرقاء فى شعر سوبرمان فاحم السواد.. أشياء من هذا القبيل تشكل ذاكرتك البصرية وإحساسك التشكيلى، وإرهاصات أولى لعشق الصور والأفلام.
بعد المجلات المصورة، وأثناءها، بدأت السينما تدريجيًا تحتل المساحة الأكبر من خيالى. فى هذه السنوات كانت السينما طقسًا معتادًا، أسبوعيًا أو شهريًا، فى حياة الطبقة الوسطى، وكان من عادة أبى أن يصحبنا لمشاهدة الأفلام كلما سمحت الظروف (الاقتصادية).
فى فيلم «حرامى الورقة» (على رضا، 1970) تلعب نجلاء فتحى شخصية شابة عاملة، تتم سرقة محفظتها يوم «القبض»، حصولها على راتبها الشهرى، وعندما تعود للبيت تستقبلها أختاها الصغيرتان اللتان تنتظران هذا اليوم كل شهر لتحقيق أمنيتين عزيزتين: الذهاب إلى السينما وتناول «الحلاوة الطحينية»!.
تصاب الطفلتان بالإحباط عندما تعرفان أن أختهما الكبرى تعرضت للسرقة، ولكن فى مشهد لاحق من الفيلم تتحقق أمنيتاهما عندما يأتى المال.
هذه بالفعل كانت أقصى أمنيات جيلنا. فى مثل عمر هاتين الصغيرتين، فى الفترة نفسها التى ظهر فيها الفيلم، كانت رغباتى تتمحور حول الذهاب للسينما وأكل الحلاوة الطحينية، خاصة «الحلاوة الشعر»، وهى نوع من الحلاوة الطحينية مبشور، له طعم أكثر هشاشة وحلاوة فى الفم.. وأعتقد أنها كانت أمنيات معظم هذا الجيل من مختلف الطبقات إذا أضفنا إليها «الكنافة» و«القطائف» فى رمضان و«حلاوة المولد» فى مولد النبى، و«الجيلاتى» و«أكواز العسل الأسود»، اللذين يباعان على العربات الجوالة.. وربما فى المناسبات الخاصة جدًا «تورتة» منزلية، أو قطعة «جاتو» من عند «جروبى» فى وسط البلد.. وهذه كانت آخر حدود عالمنا.. منطقة ومحلات ودور عرض وسط البلد.
ولدت وعشت طفولتى وصباى فى حى السيدة زينب. كنا أبناء شوارع، ولكن ليس بالمعنى السلبى. الشارع كان ملعبنا ونادينا، ومكان لقائنا بالأصحاب، واستكشاف العالم من حولنا. أتعجب الآن عندما أجد أطفالًا لا يسمح لهم بالخروج بمفردهم حتى سن الثانية عشرة، وربما بعد ذلك، وعندما أبدى دهشتى تجيبنى الأمهات عادة بأن العالم الآن مختلف وأن الجرائم والمخاطر والقبح أضعاف، أو عشرات أضعاف، ما كانت عليه فى زمن طفولتنا.. وربما معهن كل الحق، فعالمنا كان سالما، آمنا، إلى حد كبير، وكنا نتحرك جماعة أو ثنائيات أو فرادى، مشيًا أو بواسطة الترام أو الأتوبيس، دون أن نخشى شيئًا.
ليس معنى ذلك أننا كنا نعيش فى المدينة الفاضلة أو أن العالم كان آمنًا تمامًا. فى صباح أحد الأعياد خرجت لألعب بحذائى الجديد، عندما استوقفنى شاب صغير وأقنعنى بأنه «كابتن» رياضة يبحث عن موهوبين، وأنه يريد اختبار سرعتى فى الجرى، وطلب منى خلع «الجزمة» و«الشراب» حتى لا يتسخا. جريت بأقصى سرعة وعندما عدت كان قد اختفى مع الحذاء والجورب الجديدين!.
وفى المدرسة كنا نتعرض أحيانا لسرقة «الساندوتشات» أو النقود القليلة التى بحوزتنا من قبل الزملاء الأكثر شرًا، لكننى لا أذكر أن حالة واحدة من هذه السرقات كانت سطوًا بالعنف.. كان الأمر أننا نذهب للعب أو قضاء الحاجة وعندما نعود نجد أن بعض الأشياء اختفت من الحقيبة أو درج المكتب.
فى المدرسة يتعرف الطفل عادة على الشر لأول مرة. التنمر العرقى والطائفى والطبقى هو أبسط أنواع الشرور وأكثرها انتشارًا فى المدارس، كان ولم يزل، وللأسف يصعب القضاء عليه حتى فى أكثر البلاد تقدمًا وتحضرًا، لكن هذا التنمر يترك آثارًا غائرة فى نفوس الأطفال، تبقى أحيانا طوال حياتهم.
وأسوأ أنواع التنمر هو الذى يأتى من الكبار والمعلمين، الذين يفترض أن يكونوا حماة ومربين لهؤلاء الأطفال.
ولدت «قبطيًا» (مسيحيًا أرثوذكسيًا) فى حى أغلبيته الساحقة من المسلمين. كان معظم أصحابى، وأصحاب أبى، وأمى، مسلمين. لم نكن نعرف الطائفية، أو بالأحرى لم نكن نتحدث عنها فى بيتنا، لأنها كانت محدودة وغير مؤثرة فى ذلك الوقت.
ذات يوم، وكنت فى الثامنة أو التاسعة تقريبًا، أثناء عودتى وحدى من الكنيسة استوقفنى رجل يجلس على المقهى على ناصية الشارع، وأخذ منى عدة وريقات تحتوى على صور دينية من التى يوزعونها فى الكنائس، وقام بتمزيقها وإلقائها على الأرض.. هكذا، دون أى كلمة، أو فعل آخر.
لم أفهم ما حدث، وفى الحقيقة ظللت طوال عمرى لا أفهم هذه التصرفات، ولا أدرك أبعادها الطائفية إلا بعد مرور سنوات طويلة، وفقط عندما كبرت جدًا وتجاوزت العشرين، عندما تحولت مصر كلها إلى مستنقع للعنف الدينى والطائفية بأنواعها.
مرة أخرى سألنا معلم اللغة العربية فى الصف الرابع الابتدائى عن اسم زوجة سيدنا إبراهيم، لم يعرف أحد الإجابة سواى عندما ذكرت له كلًا من سارة وهاجر. وقد بدا الغيظ واضحًا على وجه المعلم الذى عاير بقية الفصل بأننى أعرف أكثر منهم. وأيضًا لم أفهم السبب وقتها.
منذ طفولتى أعشق اللغة العربية، وأقرأ كل ما تقع عليه يداى، وقرأت لكتاب مثل طه حسين والعقاد وأجزاء من القرآن فى سن مبكرة، وكما ذكرت كان معظم أصدقائى، إلى الآن، من المسلمين، حتى الفتيات اللواتى كنت أقع فى عشقهن كن غالبا مسلمات. ولو سألتنى عن مظاهر ما يطلقون عليه «الوحدة الوطنية» فى حياتى وحياة عائلتى لن أستطيع أن أحصيها أو أذكر معظمها.. لأنها الأصل. وبعيدًا عن مثل هذه المواقف الصغيرة والمكايدات الصبيانية السخيفة كان من حسن حظى أننى لم أصل إلى مصر فى الثمانينيات والتسعينيات إلا ناضجًا متحققًا، قادرًا على مواجهة وتجاوز الأوضاع المنهارة.
عندما أنهيت الثانوية العامة وحصلت على درجات جيدة التحقت بكلية الألسن، وفى استمارة الرغبات كتبت اللغة الإنجليزية، ثم العربية. عندما ذهبت لمكتب شئون الطلاب انتحت بى إحدى الموظفات وأخبرتنى بأن قسم اللغة العربية لا يصلح لى لأن كله «فقه» و«حديث».. وهذه المرة فهمت الأمر بسرعة.
لقد لحقت بآخر تعليم مجانى جيد عرفته مصر، وهو التعليم الذى بدأ فى الانهيار المتوالى مع منتصف السبعينيات وحتى الآن. كان لا يزال للمعلمين جلالة واحترامًا وتاثيرًا فى حياة تلاميذهم.
لقد كنت، ولم أزل، فاشلًا فى الرياضيات وحتى المسائل الحسابية البسيطة، وفى الصف السادس الابتدائى ( أول شهادة كبيرة حاسمة) فى حياتنا، أبدى مدرس الحساب، الأستاذ نبيل، استياءه من مستواى، وتوقعه بأننى سأسقط فى الامتحان النهائى للمادة، ولكن مدرسة اللغة العربية والمواد الاجتماعية، الأستاذة حسنية، التى كانت تحبنى لتفوقى فى هذه المواد، انتحت بى جانبًا ذات يوم وأخبرتنى بأنها راهنت الأستاذ نبيل على أننى سأتفوق فى الحساب مثل العربى، وأنها تعتمد علىّ حتى لا تخسر هذا الرهان. وكانت النتيجة أننى بدأت أذاكر وأركز فى الحساب لدرجة أننى حصلت على درجة مرتفعة جدًا فى الشهادة الابتدائية، كانت مدعاة لفخر معلمتى الجميلة التى كانت أول محفز لى فى حياتى العملية، بعد أبى وأمى طبعًا.. ولا أعتقد أن هناك الكثير من هذه النماذج الآن، سواء فى المدارس الحكومية أو الخاصة!.
بمجرد أن سمح لى بالخروج من البيت بمفردى، بدأت علاقتى الوطيدة بالسينما. فى حى السيدة زينب كان يحيط بمربع بيتنا أكثر من عشر دور عرض سينمائى.
على بعد خطوات مع بداية شارع «بورسعيد» كانت سينما «الأهلى»، التى يشغلها أحد فروع «عمر أفندى» الآن، متخصصة فى الأفلام الأمريكية الحديثة، أعتقد أنها كانت تابعة لشركة توزيع أمريكية مثل «مترو» أو «وارنر»، وكانت تتسم بمدخلها الواسع المزين برسم جدارى لغابة تمرح فيها النمور والأسود، كانت تثير خيالى حتى قبل أن أدخل السينما.
على بعد خطوات أخرى، فى شارع محمد عنايت تقع سينما «الهلال الصيفى» إلى اليسار وبعدها بخطوات تقع «سينما إيزيس» إلى اليمين، الأولى تحولت إلى خرابة، ثم مبنى سكنى، والثانية تحولت إلى أحد فروع مصنع شهير للحلاوة الطحينية.
سينما «الهلال» صيفية. كانت عروضها تبدأ مع غروب الشمس وأحيانا يصعب على المرء أن يرى الشاشة جيدًا بسبب الضوء، وكانت تعرض فيلمين مصريين أحدهما حديث، يعرض أولا، ثم يعاد عرضه مرة أخرى بعد نهاية الفيلم الثانى. كان أحد أصحابى يسكن فى شقة تطل شرفتها على السينما، وأحيانا كنا نذهب لمشاهدة السينما من شرفته. وللصوت فى سينما «الهلال» وقع خاص جدًا، فقد كنت تسمعها وأنت فى الشارع، خاصة لو كان الفيلم غنائيًا.. أصوات جذابة ساحرة مثل أصوات حوريات الأوديسا تناديك لترك كل ما لديك والدخول إلى السينما.
لكننى كنت أفضل سينما «إيزيس»، المتخصصة فى الأفلام الأجنبية، خاصة الأكشن: الكاوبوى والكونغ فو والمصارعة الحرة وجيمس بوند إلى آخره، وكانت تمتاز بأنها تعرض ثلاثة أفلام، ثم تعيد عرض الفيلم الأول مرة أخرى.. يعنى وجبة كاملة ويومًا كاملًا تقضيه داخل دار العرض. ذات يوم كان بصحبتى أخى الأصغر، وعلى الفيلم الثالث تقريبًا وجدته يبكى لأن الليل حل علينا فى دار العرض،و وهو لم ينته من واجبه المدرسى بعد!.
إذا غادرت سينما «إيزيس»، وعدت إلى شارع بورسعيد وسرت باتجاه الحلمية كان بإمكانك أن تجد «سينما الحلمية»، وقريبًا منها تقع «سينما وهبى»، وبعدهما إلى الداخل قليلًا ستجد «سينما الكواكب» عند الدرب الأحمر، أما إذا أوغلت فى شارع بورسعيد باتجاه باب الشعرية فكان يمكن أن تجد بعض دور العرض الأخرى أشهرها «سهير». عندما تعود إلى ميدان السيدة زينب وعلى بعد خطوات من جامع السيدة كان يمكن أن تجد «سينما الشرق»، وهى الوحيدة التى ناضلت للبقاء حتى سنوات قليلة مضت والآن تحولت مثل أخواتها إلى «خرابة». على باب هذه السينما، كما يحكى كبار المنطقة، جاءت تحية كاريوكا ذات يوم لحضور افتتاح فيلمها «شباب امرأة»، ورقصت على سلالم السينما وسط هتاف وتصفيق أهل السيدة زينب، وتحت نظر جنود الشرطة، وشباب المنطقة لم يتحرشوا بها، ولم تصبهم لوثة شبق تجعلهم يطاردون بنات المنطقة ويتحرشون بهن، كما حدث مع دينا بعد ذلك بثلاثين عاما أو أكثر!.
إذا واصلت السير بجوار سينما «الشرق» ووصلت لشارع خيرت كانت هناك سينما «ستار» وإذا واصلت نحو باب اللوق ستجد سينما «أوليمبيا» المواجهة لسوق باب اللوق، والتى لا تزال أبوابها قائمة ومعالمها مثل قبر مفتوح خلف الباب الحديدى.
إذا توجهت جنوبا فى شارع «السد» بجوار جامع السيدة ستصل إلى زينهم والمدبح، وهناك فى منطقة الجزارين ورائحة اللحم المذبوح كان يمكن أن تجد أغرب سينما شاهدتها فى حياتى، وهى سينما «ابن البلد»، التى كانت تعرض أفلام فريد شوقى فقط، وهى السينما الوحيدة التى كانت تحتوى على منطقة «الترسو»، وهى عبارة عن عدد من «الدكك» الخشبية المواجهة للشاشة مباشرة، وتذكرتها هى الأرخص، ربما كانت لا تتجاوز قرشًا واحدًا!.