رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كيف يدير الإخوان نشاط التنظيم فى أوروبا؟



الإخوان المسلمون بعد عقود من التغلغل فى عديد من الدول والمجتمعات الأوروبية صاروا اليوم يديرون مختلف نواحى ما يمكن تسميته «النشاط الإسلامى» فى النمسا، بل وفى أريحية لافتة، تحققت عبر سنوات من التراكم، أصبحوا وحدهم يشكلون حلقة الوصل بين الجالية المسلمة الكبيرة والحكومة النمساوية، حيث بدت الأخيرة طوال الوقت وكأنها «مرغمة» على تلك العلاقة.
فهذا المستوى العالى من استقرار وإحكام تلك العلاقة اليوم تأسس منذ ستينيات القرن الماضى على يد أشهر وأمهر من وصل مهاجرًا إلى النمسا، فى هذا التاريخ المبكر، وهما «يوسف ندا» و«أحمد القاضى» اللذان لم يضيعا دقيقة واحدة فى نسج شبكات الإخوان المسلمين، وتأمين إقامتهم والدفع بهم فى تحقيق انتشار واسع تجاوز حدود النمسا سريعًا، ليصل إلى معظم البلدان الأوروبية الرئيسية، لكنه ظل يدار من فيينا على وجه التحديد.
عكف «يوسف ندا» على إنشاء الإمبراطورية المالية الإخوانية ما بين الشرق الأوسط وأوروبا، قبل أن يتولى رسميًا منصب «رئيس العلاقات الخارجية» فى التنظيم، انطلاقًا من النمسا.
جاب يوسف ندا العالم كله تقريبًا لتمثيل مصالح الإخوان، خصوصًا المالية منها، عبر إنشاء شبكة علاقات واتصالات مكثفة مع قادة الحركات الإسلامية الدولية، حتى أن وصل إلى رؤساء دول من المتعاطفين والمتحالفين مع هذا التيار، أو ممن هم أعضاء رسميون بداخل التنظيم وتمكنوا بطرق مختلفة من الوصول إلى المنصب الأرفع فى دولهم. وقد اُعتبر فى تلك السنوات التى تمثل ربيع الانتشار الإخوانى قصر يوسف ندا فى منطقة «كامبيونى ديتاليا» الإيطالية التى تطل على بحيرة «لوجانو» المتاخمة للأراضى السويسرية بمثابة وزارة خارجية غير رسمية للتنظيم الدولى للإخوان.
نجح يوسف ندا فى لعب دور بارز فى إدارة «الخلايا المالية» الإخوانية فى المحيط الأوروبى بشكل عام، والنمسا بشكل خاص، قبل أن يطور فروع المحافظ المالية إلى دول أخرى مثل بريطانيا وألمانيا، وتشارك معه فى تلك المهمة التأسيسية «سعيد رمضان» صهر وسكرتير المرشد الأول «حسن البنا»، مؤسس التنظيم.
أما «أحمد القاضى» الذى درس الطب فى النمسا بداية من عام ١٩٦١، ما لبث أن أنهى تلك الدراسة التى شهدت على هامشها جهدًا تنظيميًا مركزًا وفاعلًا، على خط ذات المهمة التى تمثلت فى نسج وتأمين الشبكات الإخوانية فى أوروبا.
بعد استقرار الوضع وإنجاز المراحل الأولى من هذه الغاية، طار القاضى إلى الولايات المتحدة تحت ستار استكمال الدراسات العليا فى تخصص «جراحة القلب والشرايين»، مثله مثل كثيرين من هذا الجيل المؤسس الذى دخل إلى الأراضى الأمريكية بهذا الغطاء، على اعتبار أن التنظيم كان يتكفل بمجمل مصروفات سنوات الدراسة والإقامة، فى الوقت الذى ينخرط فيه العضو فى المهام التنظيمية على اختلاف أنواعها.
«القاضى» لم يكن عضوًا عاديًا، فهو يتمتع بمهارات التسلل وتشكيل الشبكات على نحو فائق، وتاريخيًا يعد من الشخصيات التى أسهمت بأدوار حاسمة فى تثبيت أوضاع التنظيم فى أوروبا، فضلًا عن النجاح فى إحداث أول اختراق مؤثر للمجتمع الأمريكى والجاليات المسلمة فيه.
اعتمد تنظيم الإخوان فى البداية على استغلال قرارات السماح ببناء المساجد فى النمسا من أجل الحصول على التبرعات المالية السخية، قبل أن يمتد هذا العمل وينتقل إلى بقية دول أوروبا، بإشراف أعضاء الإخوان النشطين المعروفين بالمهارة فى تشكيل تلك الآلية.
ثم بعد عشرة أعوام بالضبط من تاريخ الوصول الأول، أسس الإخوان فى فترة السبعينيات والثمانينيات بشكل مكثف منظمات ومؤسسات متنوعة تابعة فى النمسا، مستخدمين فى ذلك اللعبة الشهيرة، حيث تتخذ أشكالًا عدة، بعضها تجارية وبعضها الآخر انخرط فى ساحة العمل الخيرى، لكن تظل جميعها تعمل فى نشاط جمع الأموال لصالح الإخوان فى بلدان الشرق الأوسط.
بعض هذه المنظمات حرصت على أن تبدو مستقلة فى ظاهرها، وظل هناك إمعان فى صبغها بالصبغة النمساوية، من خلال شركاء محليين أو إدارتها من قبل حاملى جنسيات مزدوجة، لكنهم أمام نمط الرقابة الروتينية الهادئة يظهرون على الأوراق بجنسيتهم النمساوية، إلا أن كل تلك الكيانات ظلت وما زالت تتبع الإخوان بشكل فعلى، إما من خلال ارتباطها بقيادات إخوانية بارزة كلفت من التنظيم بإدارتها أو ملكيتها لصالح التنظيم، أو غيرها من المؤسسات الإخوانية التى نجحت عبر شبكات التغلغل فى مفاصل الدولة، فى أن تحظى منذ تلك الحقبة بمسمى الـ«مسجلة رسميًا».
أسس الإخوان كيانين كبيرين هما «اتحاد المنظمات الإسلامية فى أوروبا»، واعتبروه المظلة الكبرى لجميع الكيانات الواقعة تحت تأثير الإخوان فى أوروبا، جنبًا إلى جنب مع منظمة «كليجا كولتر فيرين» النمساوية الإخوانية، حيث اضطلعت كلتاهما فى صياغة آليات جمع الأموال من الجاليات الإسلامية. واستحوذ التنظيم عبر سنوات على روافد العمل الإنسانى كوسيلة تضمن استمرارية تدفق أموال التبرعات، حيث برز نموذج شهير لعبه ببراعة الإخوانى «أيمن على» الذى قدم إلى مصر فى ٢٠١١، وليعمل بعدها مستشارًا إعلاميًا ومتحدثًا رئاسيًا لـ«محمد مرسى»، حيث كان يقطن قبلها فى مدينة «غراتس» النمساوية، ويرأس وكالة مساعدات كبيرة تحمل اسم «طيبة»، حيث تحرك أيمن بمجرد تثبيت أوضاعه فى النمسا، إلى توسيع فروع الوكالة إلى عدد من المدن الأوروبية الشهيرة، بما فى ذلك ألبانيا والبوسنة، ومنها إلى ألمانيا فيما بعد، لينتقل بصورة مؤقتة ليمارس الإمامة فى مسجد «النور» الذى يقوم عليه التنظيم فى ألمانيا، وبعد سنوات معدودة يذهب إلى تأسيس شركة تجارية ألمانية تعمل على نقل الأموال من «ميونخ» إلى «فيينا».
هذه الحرية الكبيرة فى الحركة جاءت بصورة رئيسية اعتمادًا على أن القانون القضائى النمساوى، يسمح بالشراكات المتعددة بين الدولة ومنظمات المجتمع المدنى الدينية، لذلك ظلت النمسا تمثل للإخوان مقرًا عملياتيًا مريحًا، تضمن لهم الاستقرار وتفتح لهم الأبواب لإجراء شراكات فى دول أخرى لا تقل عنها تأثيرًا فى أوروبا دون أى ملاحقات حقيقية.
لهذا ظلت المنظمات المرتبطة بالإخوان منذ عشرات السنين فى النمسا، تحصد نجاح ما قامت بنسجه من «شبكة معقدة»، تشمل الهيئات والجمعيات والمشاريع التجارية والأكاديميات التعليمية، لتتمكن بنعومة من استقطاب غالبية المسلمين فى هذا البلد، وفى القلب من ذلك تقوم هذه المنظمات بإدارة كل أشكال التعليم الدينى الإسلامى، وقد بدأت منذ عام ٢٠١٥ بنقلة نوعية جديدة استنادًا إلى هذا الرصيد الضخم، فقد بدأ التنظيم فى استقبال العدد الأكبر من المهاجرين المسلمين القادمين من تركيا وغيرها، من أجل توسيع مساحات التأثير فى كتلة كبيرة يرونها قادمة لتشكل لهم قدرة استحواذ إضافية، بعد ضمان السيطرة عليهم أيديولوجيًا ليصيروا أعضاء عاملين بالتنظيم.