رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

قصة الأسقف الزاهد فى المناصب الرسمية للكنيسة «1-3»


فى صلوات الكنيسة القبطية، توجد ثلاثة قداسات، أحد هذه القداسات باسم القداس «الأغريغورى» نسبة للقديس «غريغوريوس الثاؤلوغوس» أى الناطق بالإلهيات «٣٢٨- ٣٩٠م»، «غريغوريوس» اسم يعنى باليونانية «ساهر». وتُعد صلوات هذا القداس قمة فى التأمل الإلهى العميق الذى تستمتع به الكنيسة سنين طويلة، وأيضًا هذا القديس معروف باسم «غريغوريوس النازينزى».
لقد قابل هذا القديس كثيرًا من المتاعب فى حياته، وأخيرًا اتهموه ظلمًا بأنه كان أسقفًا لثلاث إيبارشيات. وبذلك يكون مخالفًا قرار مجمع نيقية سنة ٣٢٥م، وكان أساقفة ذلك الزمان المبارك يرفضون أى تهمة بها مخالفة للقوانين والقرارات الكنسية انطلاقًا من ضميرهم الحى وزهدهم الرهبانى الذى لا يتطلع لأى مناصب كنسية، بعكس ما حدث بعد ذلك فى كنيستنا العريقة من المخالفات التى حدثت منذ ديسمبر ١٩٢٨ ما خلا الفترة «١٩٥٩- ١٩٧١»، فعانت الكنيسة ما عانت منه.
وفى الحقيقة فإن القديس «غريغوريوس» كان مثالًا فريدًا لاحترام قوانين الكنيسة والزهد فى مناصبها الرسمية. وفى عصرنا الحديث كان الأنبا أثناسيوس، مطران بنى سويف وقائمقام بطريرك انتخابات ١٩٥٩، أول من تصدى بحزم لتلك المخالفات الكنسية ومنع المطارنة والأساقفة من مخالفة تلك القوانين، ونجح فى ذلك، وعلى يديه متّع الله الكنيسة براهب قديس وتقىّ، ثم تبعه بعد ذلك الأنبا «أندراوس» أسقف دمياط الذى وقف بمفرده فى مجمع الأساقفة فى انتخابات ١٩٧١، رافضًا بشدة ترشح الأساقفة «سواء أساقفة إيبارشيات أو أساقفة عاميون»، ولم يجد من يسانده فى دفاعه الكنسى المستميت، فنال ما ناله، وفى ٤ أغسطس ١٩٧٢ رحل عن عالمنا فجأة وهو فى قمة حياته الروحانية الرائعة. والذين يتشدقون بعظمته يجهلون سبب عظمته الحقيقية الكامنة فى شجاعته المنقطعة النظير.
إن حياة القديس «غريغوريوس» جديرة بالتسجيل لأبناء هذا الجيل الذين غابت عنهم القوانين الكنسية الحقيقية، وإحياءً للضمائر التى نامت. وفى ٢٢ أغسطس ١٩٧١- فى خضم معارك الكنيسة فى انتخابات البطريركية- قام الباحث المدقق والمؤرخ الكنسى القدير د. منير شكرى «١٩٠٨- ١٩٩٠»، الطبيب السكندرى ورئيس جمعية مارمينا للدراسات القبطية بالإسكندرية، بنشر بحث معتمد على أصدق المراجع الكنيسة فى حياة الناطق بالإلهيات.
وُلد القديس «غريغوريوس النازينزى» عام ٣٢٨م فى بلدة صغيرة تُدعى «أريانزوس» «Arianzus» جنوب غرب «الكبادوك» تابعة لمدينة «نازينس» فى آسيا الصغرى، وكانت والدته القديسة «نونا» «Nonna» التى كسبت زوجها الثرى والقاضى إلى الإيمان المسيحى عام ٣٢٥م، بل وصار أسقفًا على «نزينزا» لمدة ٤٥ عامًا باسم «غريغوريوس» «فى ذلك الوقت كان يتم اختيار الأساقفة من بين المتزوجين».
تربى الابن تربية دينية تحت رعاية والدته التى بعثت فيه حُب الكتب المقدسة والحياة الفاضلة فى الرب مع الصلاة بتقوى وورع، فأتم دراسة الكتاب المقدس فى مقتبل شبابه، وأرسله والده مع أخيه الأكبر «قيصريوس النيزينزى» بعد ذلك إلى قيصرية الكبادوك، ثم سافر مع أخيه إلى الإسكندرية حيث كان القديس «ديديموس» الضرير مديرًا للمدرسة اللاهوتية، ثم سافر إلى أثينا ليتزود بعلوم الفلسفة والتفسير، مما زاده تعمقًا فى دراسة الكتاب المقدس.
فى أثينا تعرف على القديس «باسيليوس» الكبير فارتبط معه بصداقة ومحبة كانت مضرب الأمثال فى العالم المسيحى فى ذاك الوقت، وعاشا معًا فى حياة روحية مشتركة حتى قيل «إنهما عقل واحد فى جسدين». وبعد أن أقام فى أثينا ١٢ سنة عاد إلى وطنه بعد أن تعاهد مع صديقه القديس «باسيليوس» الكبير على أن يتبعا حياة النُسك بعيدًا عن العالم، متعاهدًا مع الرب أن يكرّس حياته كلها له، ويقول فى ذلك: «إننى قدمت كل شىء لمن حفظنى لكى أكون بكليتى خاصته، فقد كرّست له جميع ما أملكه وكل مجدى وعافيتى وصحتى وعقلى، مع سائر الأشياء التى حصلت عليها من نجاحى وثمار أتعابى، وكل ما احتقرته ورفضته، مفضلًا عليه، بل على الموجودات بأسرها، يسوع المسيح. وقد تعبت كثيرًا.. وأدوس برجلى مجد العالم بأجمعه».
وفى أثينا التقى القديس «غريغوريوس» الثعلب «يوليانوس» الذى كان يتظاهر بالمسيحية، وكان يود صداقة القديس «غريغوريوس»، لكن سرعان ما اكتشف القديس خطورته الخفية، حتى قال عنه: «ما أشرس هذا الوحش الذى تربيه المملكة الرومانية فى حضنها»، فصار يتجنب معاشرته. وعندما جلس «يوليانوس» على العرش حول اجتذاب القديس «غريغوريوس» ولم ينجح فى ذلك، وإنما نجح فى اكتساب أخيه قيصريوس النيزينزى الذى عينه كطبيب إمبراطورى، فكتب إليه القديس «غريغوريوس» ليترك هذا الذئب الخاطف، وبالفعل تركه وابتعد عنه.
ثم يتذكر صاحب السيرة العطرة والده الشيخ الوقور وما يحمل من أعباء، فتوجه إلى عائلته ليؤدى لها بعض الخدمات، فيقول: «من حيث إننا بعد العبادة والطاعة والاحترام الواجب علينا لله، يوجد التزامنا الأول نحو احترام من اتخذنا عنهم الوجود والذين صيرونا نعرف الله»، ثم ذهب إلى حيث كان صديقه القديس «باسيليوس» منفردًا فى إقليم البنط، فانضم إليه فى حياته التأملية، ولكنه اضطر إلى الرجوع لمدينة «نازينس»، إذ كان قد حدث انشقاق كبير فى إيبارشية والده الذى كان قد وقّع على قانون إيمان مجمع «ريمين» الأريوسى، فقام بتسوية الخلاف، إذ تراجع والده عن توقيعه عن اقتناع واتحدت الرعية مع راعيها. وعندما فكر القديس «غريغوريوس» فى العودة إلى حياة النسك، أعرب له والده الشيخ عن شدة الحاجة إليه، ورجاه أن يمكث معه، وحتم عليه قبول درجة الكهنوت دون أن يعطيه مهلة لإبداء رأيه، وقد كان بمثابة مفاجأة غير مستعد لها، إذ كان يرى نفسه عاجزًا عن إتمام واجبات هذه الرتبة التى تستلزم علومًا سامية، وفهمًا عميقًا مع قداسة كلية فى كل من يرتقى إلى علو مقامها، فلأجل أن يعد نفسه إعدادًا أفضل لخدمتها رجع إلى القديس «باسيليوس» فى إقليم «البنط»، ولكن توسلات والده فى طلبه ألزمته بالرجوع خضوعًا لواجبات الطاعة له كأب وكرئيس دينى، مؤملًا فى الجود الإلهى أن يكافئه عن قهر إرادته وطاعته السريعة لأبيه، بأن يمنحه النعم الضرورية للقيام بالتزامات درجة الكهنوت.
كان رجوعه سبب تعزية كبيرة للشعب، الذى كان يتوق كثيرًا إلى سماع كلمة الله بما اشتهر عنه من بلاغة عجيبة وفصاحة مذهلة، والتى اعتُبرت من سماته الخاصة مستخدمًا إياها فى كل ما يؤدى إلى البناء. ونظرًا لأن الكثيرين كانوا يتحدثون عن مقاومته للرسامة، ثم عن هروبه بعد رسامته، فقد رأى من الصواب أن يبرر نفسه مما قيل عنه فى هذا الشأن بغير أساس، موضحًا ما كان يشعر به من رهبة أمام سمو واجبات هذه الدرجة.
بهذه الصورة لبث القديس «غريغوريوس» مساعدًا لوالده فى مهمات واجبات الأسقفية «وليس أسقفًا» مدة من الزمن، وكان يباشر مهمة الوعظ ككاهن بسيط، وبواسطة دعته وعذوبة ألفاظه وفصاحته اجتذب الكثيرين إلى حياة البر والتقوى والقداسة، وكان ذلك عام ٣٦٤م.
نستكمل فى الحلقة المقبلة.