رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الشام والقاهرة.. العشق والمصير المشترك «٣-١»



ربما يتساءل البعض حول عنوان المقال، لماذا ذكرت الشام وفى مقابله القاهرة؟ الشام فى العقل الجمعى المصرى هو المعروف بـ«بلاد الشام» وتتضمن سوريا ولبنان والأردن وفلسطين، وفى شبرا- الحى الذى وُلِدت فيه- كانت هناك منطقة يُطلَق عليها «قصورة الشوام»، تعبيرًا عن حى البيوت الكبيرة «تصغير قصر» التى يعيش فيها المهاجرون الشوام، أو دعنى أقول «المصريون الشوام».
لكن الشام فى «بلاد الشام» يعنى أيضًا شيئًا آخر، أتذكر أول زيارة لى لدمشق فى عام ١٩٩٩، عندما استقبلنى زملاء الدراسة فى فرنسا: «عبدالرازق معاذ» الأثرى السورى الذى أصبح رئيس هيئة الآثار فى سوريا، و«بريجيت مارينو» المؤرخة الفرنسية التى كانت المسئولة عن الدراسات العربية فى المعهد الفرنسى فى دمشق. قالا لى: «أهلًا بك فى الشام». سرعان ما قلت لهما: «فى الشام؟! أنا فقط فى دمشق، الشام حاجة كبيرة قوى». وهنا ضحكا وفهما المنطق المصرى، ورويدًا رويدًا فهمت منهما أن دمشق تعنى الشام، فكما نُطلِق نحن فى مصر على القاهرة «مصر»، يُطلِق أهل بلاد الشام على دمشق «الشام»، هذا هو حال المدن التاريخية الكبرى، فالقاهرة هى «مصر»، ودمشق هى «الشام»، وفى تونس العاصمة هى «تونس»، هنا يفعل التاريخ فعله، وهكذا تعلمت الدرس الأول: أنا فى دمشق... أنا فى الشام.
وصلت الطائرة مع الغروب، وبعد وضع الحقائب فى مقر إقامتى فى أبورمانة، أراد «عبدالرازق معاذ» أن يقودنى فى جولة لأرى الشام بعد الغروب. والحق أنى شربت أحلى عصير فواكه فى حياتى، هل أحدثكم عن فواكه الشام؟ لا أجد أجمل منها إلا ابتسامة وجوه الشاميات! سرنا على الأقدام، حل الظلام سريعًا، وفجأة وقف «معاذ» ليُشير إلى نبع صغير، ماؤه ضحل قائلًا بعزة الأثرى المؤرخ: «محمد، هذا هو بردى». بالنسبة لى كانت مفاجأة، بل صدمة، وعلى غير عادتى اندفعت قائلًا: «ده هو بردى؟!! ده أصغر من الترعة الصغيرة فى قريتنا فى المنوفية»! هنا انتفض «معاذ» الصديق الشامى ذو الشارب- الذى كان يأخذ علىَّ أنى دون شارب- قائلًا: «محمد، لا تقل ذلك»، وذكر اسم صحفية مصرية كبيرة قالت كذلك عندما رأت بردى لأول مرة.
رحت أشرح له ماذا يعنى بردى بالنسبة لى، وبالنسبة لأى مصرى من جيلى، أنا قادم من مصر النيل، وبالتالى أقارن الأنهار بالنسبة للنيل، وذكرته كيف لم يعجبنى نهر السين فى باريس- وبالفعل النيل أجمل من السين- وتذكرت معه أنى من الجيل الذى درس فى المرحلة الابتدائية المقررات الدراسية فى زمن الوحدة بين مصر وسوريا، رغم أن الوحدة كانت قد انتهت أو فشلت أو أُفشِلَت. لكنى أتذكر فى كتاب المطالعة حكاية طفلين من مصر وطفلين من سوريا، وزيارات متبادلة لدمشق «الشام» والقاهرة «مصر». من خلال هذا الدرس تعرفت على بردى وسوق الحميدية وغوطة دمشق، درست كل ذلك على أنه الإقليم الشمالى «سوريا»، و«مصر» الإقليم الجنوبى، وكلاهما جناحا الجمهورية المتحدة، وذكرته بعشقى لفيروز وكيف غنت لبردى، ورحت أتذكر أغنية «شام يا ذا السيف» كلمات الشاعر الكبير «سعيد عقل»:
أنا صوتى منك يا بردى مثلما نبعك من سُحبى
وفى صبيحة اليوم التالى انضم إلينا شيخنا أحد كبار المؤرخين السوريين، الدكتور «عبدالكريم رافق»، واشتكى له «معاذ» مقولتى عن بردى، ونظر إلىَّ «رافق» مبتسمًا قائلًا: «بردى الآن غير الأمس، على أيامنا كان بردى نهرًا من الجنة، أما الآن فهو (مزاريب)».
نسيت أن أقول إنى كنت أعرف «عبدالكريم رافق» من خلال كتبه، وكان هذا هو اللقاء الأول، وكان من مفاجآت الشام أن اكتشفت أن «عبدالكريم رافق» مسيحى! وكان سؤالى الساذج، القادم من بيئة ما بعد السبعينيات والتوتر والتمييز الطائفى: «كيف عبدالكريم، ومسيحى؟!» قال لى: «نحن المسيحيين العرب أحفاد الغساسنة ليست لدينا أى مشكلة فى ذلك، أنا اسمى عبدالكريم ومسيحى وقومى وعربى».
وهنا أسمع من جديد صوت فيروز مع كلمات سعيد عقل، وأغنية «شام يا ذا السيف»:
شام يا ذا السيف لم يغب.. يا كلام المجد فى الكتب
قبلك التاريخ فى ظلمة.. بعدك استوى على الشهب