رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

هموم السراج



تزامن صدور بيان فايز السراج، رئيس المجلس الرئاسى لحكومة طرابلس، مع نظيره الصادر عن عقيلة صالح، رئيس مجلس النواب الليبى، ٢١ أغسطس الجارى، يُعد بمثابة اتفاق رسمى بوقف إطلاق النار بين الجانبين، كبداية للإجراءات التنفيذية التى تسعى الولايات المتحدة إلى فرضها على أطراف الأزمة، ضمن مبادرتها الخاصة بالتسوية السياسية، وهى التى تناولناها فى مقال الجمعة الماضى تحت عنوان «المبادرة الأمريكية للتسوية فى ليبيا».
بيان صالح يبدو متسقًا مع مواقفه، منذ انسحاب قوات الجيش الوطنى من محيط طرابلس والمنطقة الغربية، خاصة ما يتعلق بالتزاماته المتعلقة بمخرجات برلين ومبادرة القاهرة ووقف إطلاق النار.. بيان السراج على العكس يبدو غير متسق مع كل مواقفه السابقة؛ فقد وقع اتفاقيات التعاون الأمنى والبحرى مع تركيا نوفمبر ٢٠١٩.. ووجه دعوة رسمية لدخول القوات التركية ليبيا.. كما وقع اتفاقيات تنظم وجودها وحصاناتها الدبلوماسية.. وتوصل مع وزيرى الدفاع التركى والقطرى إلى اتفاقيات فى ١٧ أغسطس الجارى، أى قبل أربعة أيام من صدور إعلان وقف إطلاق النار!!، لجعل ميناء «مصراتة» قاعدة بحرية تركية، وإنشاء مركز تنسيق عسكرى ثلاثى بها، وتمويل الدوحة مراكز ومقرات التدريب لمقاتلى الوفاق.. إذن، السراج أهدر السيادة الليبية، وهدد الأمن الإقليمى، فما الذى تغير منذ توقيع اتفاق ١٧ أغسطس، حتى يبرر إعلانه وقفًا شاملًا لإطلاق النار؟!، إلا إذا كان الإعلان ناتجًا عن ضغوط لن يلبث إلا ويجد وسيلة لتجاوزها.. فضلًا عن أن التوافق على قاعدة دستورية تجرى بناء عليها الانتخابات المقبلة درب من المستحيل، بعد أن أهدر الإخوان مشروع الدستور الذى أعدته اللجنة المختصة على مدى عامين، أملًا فى توفير فرصة لقفز مرشحيهم على السلطات فى البلاد، وتهميش القيادات الوطنية.
نعرض فى مقالنا هذا بعض هذه الضغوط:
مشكلة الميليشيات:
تركيا دفعت بنحو ٣٠٠٠ من عسكرييها إلى ليبيا ما بين ضباط وجنود وعناصر مخابرات، لتولى إدارة المعارك، وتشغيل المعدات التقنية الحديثة التى جلبتها، وسعت بالتعاون مع الإرهابى الدولى عبدالكريم بلحاج لتوحيد الميليشيات الإرهابية تحت لوائها، تمهيدًا لدمجها فى مؤسسات الدولة، وتكليفها بمهمة تأمين وحماية المقرات الحكومية بالعاصمة طرابلس، والسيطرة على الأوضاع، وهو ما تم تقنينه خلال الاتفاق التركى القطرى الأخير.. تركيا أطلقت «محفظة مالية» لجمع الأموال من إخوان أوروبا لتمويل نشاطها فى ليبيا، بلغت قيمتها ١٫٧ مليار دولار، وقد تولى الإشراف على الحملة «محمد حكمت وليد» مراقب الجماعة فى سوريا.. غير أن الأتراك لاحظوا أن قطاعًا واسعًا من الميليشيات المسلحة يحجم عن الانخراط فى القتال، وأن جل اهتمامه أن يحصل على إتاوات من الحكومة نظير تأمين منشآتها، كما انبثقت عنهم تشكيلات إجرامية، تمارس أعمال الابتزاز والبلطجة على المواطنين، وهو ما كان أحد الدوافع لجلب المرتزقة الأجانب.

أزمة المرتزقة الأجانب:

تركيا نقلت أكثر من ٢٠ ألف إرهابى إلى ليبيا، لكن قرابة ٦٠٠٠ من السوريين عادوا إلى بلادهم هربًا من ظروف المعيشة، وعدم الحصول على مستحقاتهم، وقرابة ٥٠٠ تسللوا إلى إيطاليا بزعم أنهم مهاجرون، وقتل ٥٠٠ فرد، وأصبح الوجود الراهن يقتصر على قرابة ١٣ ألف مرتزق ينتمون إلى سوريا وتونس وتشاد وبعض الدول الإفريقية.. هذا المأزق حاولت تركيا تعويضه ببدائل مختلفة.
«ميدل إيست مونيتور» البريطانى، أكد فى يوليو الماضى أن المخابرات التركية دفعت ٢٠٠ من الكوادر المحسوبة على حزب التجمع اليمنى للإصلاح، الذراع السياسية لتنظيم الإخوان فى اليمن، إلى ليبيا للعمل كمرتزقة للسراج، وكلفوا بمساعدة إخوان ليبيا بالسيطرة على المواقع التنفيذية والتشريعية، وبناء القدرات الفكرية لقيادات وكوادر الصف الثالث والرابع بالجماعة، للدفع بهم فى الانتخابات المقبلة.
هذه الكوادر تم نقلها إلى أنقرة بزعم تلقيها العلاج، ثم نقلت تباعًا إلى طرابلس، قبل وقوع بعضها أسيرًا لدى الجيش الوطنى.. قطر جندت قرابة ٥ آلاف شاب صومالى، انضموا رسميًا إلى جيشها بعد مقاطعة دول الرباعى العربى لها، ومنحتهم الجنسية.. موقع «صومالى جارديان» أكد أن أكثر من ٢٠٠٠ صومالى منهم خُدعوا وتم نقلهم إلى ليبيا، للانضمام إلى جيش المرتزقة؛ بعضهم توفى بالتسمم أثناء التدريب، وأهاليهم نظموا حملة مطالبين بالكشف عن مصير أبنائهم.. الاعتماد التركى على جيوش الانكشارية منهج تاريخى، لكن مشاكله متعددة.

الصراع بين المرتزقة والميليشيات:

المرتزقة لعبوا دورًا كبيرًا فى فك حصار الجيش على طرابلس لـ١٤ شهرًا، وقلبوا موازين القوى، ما مكن السراج من استعادة كامل المدن والأهداف الاستراتيجية بالمنطقة الغربية، ولكن نتيجة لطول المواجهة، وحالة اللا سلم واللا حرب، احتدم الصراع بينهم وبين الميليشيات التابعة للوفاق، التى خرجت فى مظاهرات غاضبة منددة بوزير الداخلية فتحى باشاغا، بعد أن قام بتدشين قوات خاصة من المرتزقة السوريين.
كما ثارت بين المرتزقة والميليشيات خلافات عقائدية، وأخرى تتعلق بتولى مسئوليات القيادة، ورغبة السوريين فى تجنب خط الجبهة فى سرت والجفرة، فى ظل حالة التأهب والتحشيد العسكرى من أجل معركة سرت والجفرة، والتمركز للدفاع عن العاصمة، وصار التربص بين الجانبين ينذر بصدام مسلح، خاصة أن الوحدات التى تستعد للهجوم تعانى مشكلات لوجستية، ونقصًا كبيرًا فى الذخيرة والوقود، ولم يتم إبلاغ القيادة التركية خشية اكتشاف عمليات نهب الإمدادات والتموين.. وخلال الاجتماع الأخير بين وزراء دفاع تركيا وقطر والسراج تم الاتفاق على منح المرتزقة السوريين والصوماليين والتونسيين جوازات سفر ليبية، ودمجهم ضمن قوات الوفاق تحت إشراف وتدريب تركى داخل قاعدة الوطية وفى مطار طرابلس بدعم مالى قطرى، وسيتم تكليفهم بمهام محددة من ضمنها تأمين وحماية مقرات حكومية تابعة للوفاق.. صراع الميليشيات والمرتزقة والضغوط الأمريكية لتصفيتها، تمثل بعض أوجاع السراج.

تصدع المجلس الرئاسى:

السراج يعانى من تصدع حاد فى المجلس الرئاسى، ظهر مؤخرًا فى خلافاته مع نائبه أحمد معيتيق، كما تمثل فى انتقادات عضو المجلس الرئاسى عبدالسلام كاجمان، إضافة إلى التململ بين قادة الميليشيات المقاتلة.. انتقاد «قوة حماية طرابلس» لسيطرة الإخوان وتصرفاتهم.. تأكيد المركز الإعلامى لـ«كتيبة الحركة ٣٦»، التابعة لصلاح بادى، آمر ما يعرف بـ«لواء الصمود» التابع للإخوان، أن «أكثر المقاتلين الذين حُشِدوا غرب سرت تخلوا عن أعمالهم ومشاغلهم، تاركين أطفالهم دون كهرباء أو مياه أو سيولة نقدية، علاوة على مخاطر تفشى «كورونا»، هؤلاء الشبان تأكلهم الشمس الحارقة والرمال والقاذورات كل يوم، وهم ينتظرون معركة لن تبدأ قريبًا على ما يبدو».. هذه الحدة فى لغة الخطاب الداخلى بين الميليشيات سببها الخلافات المحتدمة بين معسكرى مصراتة وطرابلس، الأول يريد مواصلة الحرب!!، والآخر يتعلق بالمبادرة الأمريكية، ويأمل أن تحقق مكاسب تبقى على أوضاعهم الراهنة.. السراج فى أزمة حقيقية.

تذمر المنطقة الغربية:

شعبية السراج وحكومته فى طرابلس والمنطقة الغربية تآكلت بشدة، الشعب الليبى لم يغفر له استقدام المستعمر التركى، وتسليط المرتزقة على الدولة، مهما كانت مبرراته.. الخدمات والمرافق العامة وصلت إلى مرحلة الانهيار. الكهرباء تنقطع معظم ساعات النهار، نتيجة نقص الوقود، وسرقة العصابات الإجرامية المحطات، والسكان اقتحموها لتشغيلها عنوة، ما أخرج بعضها من الشبكة.. حتى مياه الشرب والاتصالات تعانيان من نفس الأزمة.. انعدام الأمن وصل إلى حد ممارسة العصابات المسلحة أعمال السطو بالقوة والاعتداء على المواطنين، والميليشيات تمارس سلطات استثنائية بعيدًا عن القانون ومبادئ حقوق الإنسان، وصلت إلى ممارسة اعتقالات واسعة فى الأصابعة والزاوية، بحق عناصر ادعت تعاطفها مع الجيش الوطنى الليبى.. المظاهرات انفجرت فى مشهد غير مسبوق فى طرابلس ومدن الغرب الليبى، مطالبة بإسقاط النظام، ومحاربة الفساد ومعالجة تردى الأوضاع المعيشية، وصرف الرواتب التى عجزت الحكومة عن تدبيرها، بعد استنفاد رصيدها فى المصرف المركزى الليبى بتحويلات مباشرة إلى تركيا، وتمويل للمرتزقة والميليشيات.. عمق الأزمة دفع السراج لنقل أسرته إلى تركيا، واستمراره من عدمه رهن بتطور الاحتجاجات.

مخاطر نفاد صبر مصر:
السراج وصل إلى مرحلة اليأس من المستقبل السياسى لحكومته؛ ضحى بوضعه السياسى وسمعته كوطنى، وجلب المستعمر الأجنبى لبلاده دون عائد، لكن تركيا أتت وعينها على نهب ثروات الهلال النفطى فى سرت، واحتلال قاعدة الجفرة الاستراتيجية، للتوجه منها إلى الشرق والجنوب.. خط مصر الأحمر وقوتها الضاربة شكلا عقبة كأداة فى مواجهة تحقيق تلك الأطماع، لكن تركيا تواصل تعزيز قدراتها العسكرية، وتتوسع فى جلب المرتزقة، والسراج يدرك أنه لا يمكن الرهان على صبر مصر، لأنها لن تترك تركيا تمرح بعيدًا عن الخط الأحمر، ولن تسمح لها بتحقيق فائض عسكرى يغريها بالعدوان.
ظهور قطر كلاعب رئيسى فى الأزمة بطلب من أردوغان، تخلصًا من عزلتها السياسية، بعد أن ظلت فى الخفاء طوال المدة السابقة يمثل استفزازًا آخر لمصر والإمارات والسعودية.. يوسع نطاق العداء، ويهدد بتشكيل قوات موالية للدوحة وأخرى موالية لأنقرة، خاصة بعد عودة حمد المرى، قائد القوات القطرية الخاصة لطرابلس، مكلفًا بتفكيك ميليشيات الإخوان وتأسيس جيش نظامى بديل مما يعمق الانقسام داخل ليبيا.. هذا القرار تم اتخاذه خلال اتصال أردوغان بتميم، بعد ساعات من تصريح السيسى المتعلق باستخدام القوة العسكرية المصرية لمنع الميليشيات والمرتزقة من تجاوز الخط الأحمر، أردوغان حذر تميم من أن الدخول المباشر لمصر على خط الأزمة يهدد بهزيمة تيار الإسلام السياسى الذى تدعمه الدوحة، وسيطرة الجيش الوطنى على كل ليبيا.
زيارة مدير المخابرات الحربية اللواء خالد مجاور لليبيا، والرسالة التى حملها للمشير حفتر كانت خطابًا مفاده أن مصر لن تسمح لتركيا وقطر بتغيير معادلات القوى فى ليبيا، وهو ما ضاعف من إحباط السراج، ودفعه لتغيير المسار، والاتجاه نحو التهدئة دون مقدمات.

أنقرة غاضبة من بيان وقف إطلاق النار الذى أصدره السرّاج، بالتنسيق مع عقيلة صالح، دون الرجوع إليها، وقد أدركت أن السراج بدأ يتحسب لاحتمال نجاح الضغوط الدولية والإقليمية فى إجبارها على الانسحاب، مما يفسر تسريبه أخبارًا تبرر لجوءه سابقًا لتركيا باعتبارها البديل الوحيد لمنع سقوط طرابلس.. تركيا تخشى أيضًا من أن تكون مظاهرات طرابلس ومدن المنطقة الغربية إرهاصات لثورة شعبية تطيح بالسراج وبالاحتلال التركى، وهو ما تتم متابعته بمعرفة مجلس الأمن القومى، فى الوقت الذى تحاول فيه إحكام سيطرتها الكاملة على الأوضاع بالمنطقة الغربية، سواء من خلال وجودها العسكرى أو بالاتفاقات الموقعة.. وقطر تدرك ضعف موقف السراج السياسى وترى أن الفرصة مواتية لقفز العناصر الإخوانية على السلطة فى طرابلس.
السراج وتركيا وقطر فى مأزق كبير.. فتحول مظاهرات طرابلس إلى فوضى أمر مرجح، نتيجة غياب الكوادر السياسية القادرة على إدارة الأزمة، وانعدام التمويل، وفقدان القدرة على تلبية احتياجات المحتجين من المرافق والخدمات، فضلًا عن انهيار الأمن نتيجة تدخل الميليشيات والمرتزقة لاحتوائها بالسلاح.. الأزمة تفرض على الأطراف الثلاثة التراجع الاستراتيجى، لاقتقادهم إلى أدوات المعالجة، لكننا ينبغى أن نتحسب لاحتمال توافقهم على تجاوز كل تلك الإشكاليات المعقدة، والتراجع للأمام، وبدء الحرب على محور سرت- الجفرة، لنقل مركز الأزمة بعيدًا عن تفاعلات طرابلس غير المواتية، توطئة لقمعها، وإعادة ترتيب الأوراق.. دخول الشعب الليبى على محور الأزمة يدفع بها إلى مرحلة جديدة، تتوقف طبيعتها على مدى تصميمه على الاستمرار، واستعداده للتضحية.. وتقديرنا أنه شعب قوى قادر على أن يصنع الكثير.