رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

دوائر الفساد حول أردوغان


فى ظل حالة من التنافس السياسى، المتوقعة والمنتظرة، من الأجنحة التى شعرت بالتغول الحاد الذى مارسه رجب أردوغان بحقهم بعد التعديلات الدستورية التى أجراها عام ٢٠١٧- شهد الداخل التركى موجة من الانشقاقات والخروج الجماعى لطبقة السياسيين الكبار من الحزب، بعدما وافق البرلمان التركى الذى يمتلك فيه حزب «العدالة والتنمية» أغلبية مطلقة، على مشروع قانون لتعديل الدستور لإقرار نظام رئاسى فى الحكم يمنح أردوغان صلاحيات رئاسية وتنفيذية واسعة.
لفت الانتباه بالطبع خروج «داود أوغلو» على وجه الخصوص، باعتباره ظل يمارس دور منظر حزب «العدالة والتنمية» لسنوات، فضلًا عن شغله العديد من المناصب التنفيذية الرئيسية التى كان آخرها رئيسًا للوزراء حتى العام ٢٠١٦. ليقوم أوغلو بعد انشقاقه عن الحزب وخروجه من دائرة أردوغان القيادية، بتأسيس حزب «المستقبل» نهاية السنة الماضية، الذى يعتبر منافسًا جديًا على قواعد حزب «العدالة والتنمية» وبدأ فعليًا يحظى بشعبية فى العديد من المناطق والدوائر الانتخابية التركية.
منذ تأسيس الحزب الجديد، يقدم داود أوغلو نفسه للناخب التركى باعتباره، يسعى لوضع حد للانتهاكات التى تقوم بها السلطة فى تركيا بقيادة الرئيس أردوغان، والتى انعكست سلبًا على اقتصادها وأدخلته فى دوامة حادة من الأزمات. السياسى المخضرم الذى قضى عقودًا داخل أروقة الحزب، والأهم المناصب الحكومية التى تمكنه بشكل احترافى من سبر أغوار الصفقات والاتفاقيات وأوجه الصرف، التى صارت من العناوين المثيرة لجدل كبير داخل تركيا فى الآونة الأخيرة، بدأ يدخل مؤخرًا إلى المناطق المخفية التى يتنامى فيها الفساد بسرعة مذهلة، حيث صارت أطروحات أوغلو تتركز على أن تورط أردوغان ودوائر حكمه المقربة، فى تلك المساحات من الفساد يمثل مع السياسات الاقتصادية الخاطئة، سببًا رئيسيًا لتراجع الاقتصاد وتفاقم عجز ميزانية الدولة، إضافة إلى تراجع الحريات العامة وتدهور الديمقراطية.
مؤخرًا كشف أوغلو عن أن حجم الفساد وصل إلى مستويات غير مسبوقة، وتساءل علنًا عن مصير «١١٠ مليارات ليرة» بما يوازى «١٦ مليار دولار» باعتبار مصيرها يظل مجهولًا وغير مدرجة بميزانية الدولة بالصورة المعتادة. حيث رفض أوغلو تبرير الحكومة ومناصريها بأن الأمر يعود إلى تداعيات تفشى وباء «كورونا»، وانعكاسها على القطاعات الرئيسية لدخل الدولة الأكثر حيوية، متهمًا نظام أردوغان بكلمات قاسية وكاشفة لحجم المسكوت عنه: «لقد خسفوا بمكانة تركيا الأرض، وكورونا ليس له علاقة بذلك». فقد كان الرجل يعبر عن انزعاجه من الفساد فى «المناقصات العمومية» التى تنظمها وتتعاقد عليها الحكومة التركية فى الفترة الماضية، وفى حديث مهم لقواعده الانتخابية المستهدفة، قال أوغلو: «كنا سنجرى تعديلات تفرض سيطرة كاملة على جميع المناقصات، لأننى رأيت بعينى ما يجرى فى هذه المناقصات، ولكننى تعرضت لانقلاب داخلى من الحزب»، مشيرًا بالطبع لحزب العدالة والتنمية وما تعرض له من جناح أردوغان. فما بدا أنه الأكثر تداولًا اليوم بأنقرة؛ أن حزب «العدالة والتنمية» يقوم بتفضيل رجال أعمال بعينهم، مقربين من النظام وفى الوقت ذاته قابلين للإخضاع واقتطاع أنصبة لصالح دوائر النفوذ المقربة، عبر منح المناقصات فى مساعيه لكسب الولاءات وحصد المكاسب فى آن واحد. التململ الذى صار يضرب جنبات حزب أردوغان مؤخرًا، أن هناك مستوى أعلى وأكبر من الفساد صارت تستأثر به دوائر النخبة والتى تحيط بأردوغان نفسه، حتى بقى الحزب وقياداته له مستوى من الانتفاع يمكنه من السير وممارسة سيطرته على الحياة السياسية، فى الوقت الذى يتابع الجميع أن فى ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة هناك المستوى الأكبر، الذى عكسه النموذج الأخير حين قامت «محكمة إسطنبول» فى دائرتها الثامنة بإصدار قرار يمنع وصول المستخدمين إلى محتوى عناوين «٦ أخبار» على موقع «قاموس إيكشى» المحلى، والذى يحمل عناوين أهم الأخبار المتداولة فى الصحف التركية، من بينها خبر خاص بحقيبة زوجة الرئيس التركى والآخر خاص بتورط نجله «بلال أردوغان» فى قضايا فساد شهيرة. ويدخل الصهر «بيرات البيرق» هو الآخر فى نصيب معتبر من هذه الاتهامات، التى استطاع منافسو أردوغان الوصول إلى تفاصيلها وتسريبها على نحو واسع، ما دفع الأخير لأن يقوم بتجنيد مؤسسات الدولة لمحاصرة هذه الاتهامات فى صور متعددة، منها الاعتقال والتشهير، بل والذهاب فى البعض منها إلى الملاحقات القضائية. قبل فترة وجيزة بدأت سلطات أردوغان التحقيق مع مراسلة صحيفة «جمهورييت» المعارضة، وهى الصحفية «هازل أوجاق» لكتابتها تحقيقًا صحفيًا عن شراء البيرق أراضى على طريق قناة إسطنبول المائية عام ٢٠٠٣، قبل شراء أخرى ونقل ملكيتها للوزير نفسه عام ٢٠١٢، وكلاهما جرى بالمخالفة للقانون وبمبالغ غير معلوم كيفية تدبيرها من قبل وزير مالية حكومة أردوغان، اعتبرت السلطات التركية خبر الصحفية يمثل إهانة لوزير المالية، فى حين أنها لم تنف ما كشف عنه التقرير الذى تمثل فى الكشف عن واقعة شراء والد الوزير ثلاثة أفدنة فى منطقة «أرناؤوط كوى» الواقعة على مسار قناة إسطنبول، وبعد أن أعلن أردوغان عن المشروع اشترى ١٣ فدانًا أخرى ونقل ملكيتها لنجله وزير المالية وزوج ابنة رجب أردوغان. ووفقًا لما ذكره التحقيق فإن الأرض المشتراة تقع ضمن حدود المنطقة السكنية فى الخطة الجديدة لقناة إسطنبول، وأشار سماسرة عقارات وخبراء إسكان إلى أن الفساد الذى جرى فيه التلاعب الواسع بالأسعار وقيمة الأرض، يتمثل فى الاطلاع على معلومات داخلية جرى تسريبها عن الخطط الحكومية المستقبلية، وهذا الأمر استأثر به صهر أردوغان ووزير ماليته شخصيًا، ومن الواضح أنه حقق فيه مكاسب ضخمة وكان إخفاؤها مطلوبًا لدرجة استخدامه والده فى عملية الشراء، فالأراضى الموجودة بتلك المنطقة زادت قيمتها السوقية بشكل كبير، وبالصورة التى دفعت التحقيق الصحفى لأن يكشف تلك الأسرار، فى الوقت الذى لم يكن هناك بد من جانب دائرة أردوغان لأن تقوم بملاحقة الصحيفة ومراسلتها فى دوائر القضاء، لإرباكهما بقضية إهانة وزير المالية الذى ينظر إليه فى تركيا الآن باعتباره العراب الأول لفساد دائرة حكم أردوغان.