رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المبادرة الأمريكية للتسوية فى ليبيا



الإدارة الأمريكية هى الداعم الأكبر للسياسة التوسعية التركية، طالما لا تتعارض مع مصالح الأمن القومى الأمريكى.. تركيا من بين دول أطراف المنطقة العربية، التى تعتمد عليها الإدارات المتعاقبة فى البيت الأبيض، هذه الحقيقة أكدها سولى أوزيل، المحاضر التركى بجامعة «قادر هاس» بإسطنبول، فى حواره بمركز كارنيجى للشرق الأوسط حول «الطموحات التركية بالمنطقة»، عندما أكد أن أردوغان هو الشخصية الأكثر اتصالًا بالرئيس ترامب.. هذا الوضع مستمر منذ عقود طويلة، بدليل أن واشنطن لم تقرر تجميد بيع الأسلحة لتركيا منذ ١٩٧٨، رغم غزوها قبرص، بحكم أهميتها كحليف استراتيجى داخل حلف «ناتو».. حتى فيما يتعلق بالغزو التركى لليبيا، فقد أكد جون بولتون، مستشار الأمن القومى الأمريكى السابق فى مذكراته، أنه اعتمد على دعم ضمنى أمريكى.
أردوغان ارتكب خطأ جسيمًا، بالربط بين غزو ليبيا، وأطماعه فى غاز شرق المتوسط، وأغفل المصالح والاستثمارات الضخمة للشركات الأمريكية العملاقة «إكسون موبيل ونوبل إنرجى»، أصحاب النفوذ والتأثير على القرار السياسى الأمريكى، كما تجاهل أن تساهل واشنطن بشأن علاقاته بموسكو يتعلق بحرصها على تيسير حصوله على الغاز للاستهلاك الداخلى، وتحقيق عائدات اقتصادية نتيجة مروره إلى أوروبا.. الرئيس التركى لم يدرك أيضًا أن واشنطن لا يمكن أن تسمح له باختراق شبكات الاتصال وشفرات الدفاع الجوى لحلف «ناتو» بالمنظومة الروسية «S-400»، على نحو يمس أمن التكتل الغربى.. ويفسر ذلك مطالبة واشنطن لأنقرة بوقف عمليات المسح الجيولوجى، لأن المواجهة العسكرية التركية اليونانية، والانحياز الفرنسى للأخيرة، يمثلان شرخًا داخل حلف «ناتو».. الكونجرس الأمريكى أنهى حظر بيع الأسلحة لقبرص، والأسطول السادس أجرى تدريبات عسكرية مع قبرص للمرة الأولى، بعدها شاركت حاملة الطائرات النووية الأمريكية «دوايت أيزنهاور» و١٢ سفينة حربية أخرى فى مناورات عسكرية بحرية جوية جنوب جزيرة «كريت» اليونانية.. كل ذلك يمثل دعمًا أمريكيًا حاسمًا لليونان وقبرص فى مواجهة التحرشات التركية.
الكونجرس الأمريكى قرر تجميد مبيعات الأسلحة لتركيا مدة عامين، ١٢ أغسطس ٢٠٢٠، بسبب صفقة منظومة صواريخ الدفاع الجوى الروسية «S-400».. هذا القرار يلحق بتركيا أضرارًا جسيمة، تضاف إلى خسارة استبعادها من تحالف إنتاج المقاتلة الأمريكية الحديثة «F-35»، كما يترتب عليه عدم تلبية طلباتها العسكرية، باستثناء ما يتعلق بدعم عمليات الناتو.. ووقف تنفيذ عدة صفقات مهمة لتركيا، أبرزها توريد قطع الغيار اللازمة لتحديث طائرات «F-16» المتقادمة، وصفقة بيع طائرات الهليكوبتر الهجومية التركية الصنع لباكستان من طراز «T129s ATAK» بقيمة ١.٥ مليار دولار، نظرًا لعدم ترخيص المحرك الأمريكى «CTS800».. القرار يعكس تراجع ثقة واشنطن فى أنقرة كحليف رئيسى.
مستشار الأمن القومى الأمريكى «روبرت أوبرايان» كشف عن مبادرة أمريكية لتسوية الأزمة الليبية، تستند إلى عدم وجود حل عسكرى للأزمة.. وتتضمن رفض أى تدخل عسكرى أجنبى أو استخدام مرتزقة أو ميليشيات.. ومنع إقامة وجود عسكرى دائم، أو السيطرة على الموارد الليبية.. تمكين المؤسسة الوطنية للنفط من استئناف عملها، مع الالتزام بالشفافية فى إدارة عائداتها.. إنشاء منطقة منزوعة السلاح فى سرت.. وقف تصعيد الأزمة، وتجنب تعميق النزاع وإطالة أمده.. احترام حظر تصدير السلاح.. التوصل لوقف دائم لإطلاق النار بموجب المحادثات العسكرية «٥+٥» برعاية الأمم المتحدة.. المبادرة عبرت عن القلق من وجود عناصر شركة «فاجنر» الدفاعية الروسية بليبيا، ووصفت الجيش الليبى بـ«ما يسمى القوات المسلحة العربية الليبية»!، وأكدت استمرار العمل مع المؤسسات الليبية المسئولة، مثل «حكومة الوفاق الوطنى ومجلس النواب»، لحماية سيادة ليبيا.. المبادرة الأمريكية على هذا النحو تجمد الأوضاع الراهنة للقوات المتحاربة، لا تحدد آليات لخروج القوات الأجنبية والمرتزقة، تفرض تقسيمًا واقعيًا للبلاد، تعتبر حكومة السراج طرفًا أصيلًا فى التسوية، ولا تقدر الدور الوطنى للجيش الليبى.
السفير الأمريكى لدى ليبيا ريتشارد نورلاند كُلّف بالإشراف على تنفيذ المبادرة، التقى عقيلة صالح رئيس البرلمان الليبى بالقاهرة، واستمع منه لردود تعكس مرونة سياسية، مع التمسك بالثوابت الوطنية.. قبول تحويل مدينة «سرت» إلى مقر للحكم حتى إجراء انتخابات نيابية جديدة.. لا مانع من نزع سلاح المدينة شريطة خروج القوات الأجنبية، وفى مقدمتها القوات والخبراء الأتراك والمرتزقة والإرهابيون الذين جلبتهم تركيا.. تشكيل جهاز أمنى موحد لتأمين المنشآت السيادية، وحفظ الأمن فى المدينة وبكل أنحاء البلاد.. حل المجلس الرئاسى الحالى، وتشكيل مجلس رئاسى جديد من رئيس ونائبين يمثل أقاليم ليبيا الثلاثة.. تشكيل حكومة وحدة وطنية يقودها رئيس ونائبان يمثلون الأقاليم الليبية.. لا مانع من استئناف عمل المنشآت النفطية، شريطة عدم وجود الميليشيات أو المرتزقة بها، وألا تكون لهم أى علاقة بملف النفط، وألا تذهب عائداتها إليهم فى صورة رواتب أو مكافآت.. فتح حساب مصرفى خاص بإيرادات النفط، يتم تجميده وعدم تحويله إلى المصرف المركزى إلا بعد وجود سلطة جديدة، والتحقيق فى مصير الأموال التى خرجت منه.. وبخصوص حكومة السراج أكد صالح أنها ليست طرفًا فى أى حوار، لأن مجلس النواب لا يعترف بها كحكومة.. كما رفض وجود تركيا فى أى معادلة سياسية جديدة داخل ليبيا.
السفير الأمريكى نورلاند زار أنقرة أيضًا للقاء المسئولين الأتراك، وذلك عقب اتصال هاتفى بين ترامب وأردوغان، لبحث الخطوات اللازمة للتوصل إلى الحل الأمريكى للأزمة الليبية، مؤكدًا ضرورة إنهاء الصراع، ونزع السلاح فى وسط ليبيا، والعودة للحوار السياسى، مع الاحترام الكامل لسيادة ليبيا وسلامة أراضيها، مما يفرض تحقيق الانسحاب الكامل والمتبادل للقوات الأجنبية والمرتزقة لتمكين المؤسسة الوطنية للنفط من استئناف عملها.. أمريكا تتعامل مع تركيا باعتبارها قوة رئيسية لا يمكن تجاهلها فى أى تسوية، لأنها تفرض وجودها على الأرض، وتعتبرها، للأسف، حليفًا يمكن توزيع الأدوار معه، خاصة فيما يتعلق بمعادلة الثقل الروسى فى ليبيا، وذلك مصدر القلق من الدور الأمريكى الراهن فى جهود التسوية.
أمريكا قوة رئيسية فى السياسة الدولية، وعلى مستوى الإقليم، لكنها لم تكن أبدًا قوة فاعلة فيما يتعلق بالأزمة الليبية منذ ٢٠١١، وكل ما يحركها حاليًا هو السعى لموازنة الدور الروسى.. ورغم كل إجراءات الضغط التى مارسها الكونجرس ضد تركيا، فإن الإدارة الأمريكية ستظل تعتمد عليها كقوة موازنة رئيسية على الساحة الليبية، كما ستظل متمسكة بحكومة السراج بادعاء أنها المعترف بها دوليًا، لذلك لم يكن غريبًا أنه فى الوقت الذى تنشط فيه الدبلوماسية الأمريكية لمحاولة تمرير مبادرتها السياسية، يجتمع وزراء دفاع تركيا وقطر مع حكومة السراج، ليؤسسوا قاعدة عسكرية بحرية تركية فى «مصراتة»، وأخرى جوية فى «الوطية»، وفى ذلك تكريس لاحتلال الغرب الليبى لعقود قادمة، والانطلاق منه لتهديد الشرق الليبى ومصر، بخلاف تونس والجزائر.. ما فشلت تركيا فى تحقيقه فى إدلب نتيجة للتنسيق الحازم بين روسيا وسوريا، تحاول تعويضه فى ليبيا، مما يفرض استمرار الحوار مع واشنطن، دون إغفال التنسيق الاستراتيجى مع موسكو، فكل المؤشرات تؤكد أنه ربما يكون الحل الأخير للأزمة.