رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

بيلاروسيا.. وهم الديمقراطية الغربية


مواطنون من روسيا البيضاء «بيلاروسيا» احتشدوا أمس الأول، الأحد، وسط العاصمة مينسك، وهم يهتفون: «ارحل»، بعد أسبوع من انتخابات أسفرت عن إعادة انتخاب الرئيس ألكسندر لوكاشينكو، الذى يتولى السلطة منذ أكثر من ربع قرن.
عادى طبعًا، أن يحدث ذلك، وعادى أيضًا أن تخرج مظاهرات مؤيدة للرئيس لوكاشينكو، لكن غير العادى، هو أن تدخل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى على الخط، وأن تزايد ألمانيا على الجميع، ويخرج أولاف شولتز، وزير ماليتها، نائب مستشارتها، ليصف لوكاشينكو، بأنه «ديكتاتور فقد دعم شعبه»، ويحذر موسكو من التدخل لإبقائه فى السلطة، كما كان لافتًا ذلك الظهور الخاص للكاتبة البيلاروسية سفيتلانا ألكسييفيتش، الحاصلة على جائزة نوبل فى الأدب، التى أكدت دعمها المتظاهرين، وطالبت لوكاشينكو بالتنحى، محذرة من «اندلاع حرب أهلية»!.
ألكسندر لوكاشينكو، الذى سيكمل عامه السادس والستين فى ٣٠ أغسطس الجارى، يحكم بيلاروسيا منذ سنة ١٩٩٤، وقالت النتائج الرسمية للانتخابات، التى جرت الأحد قبل الماضى، إنه حصل على ما يزيد على ٨٠٪ من الأصوات، وهى النتيجة التى يراها أنصاره منطقية لأنه «نجح فى تجنيب البلاد الفوضى وعزز الاستقرار فيها، وأبعد عنها شبح الصراعات الكثيرة، التى شهدتها دول مجاورة». كما يؤكدون، أيضًا، أنه «منع إدخال بيلاروسيا فى دوامة الخصخصة العشوائية التى شهدتها روسيا، خلال تسعينيات القرن الماضى، ما ساعد فى المحافظة على مستويات مستقرة، حتى لو كانت متدنية».
معارضو الرئيس البيلاروسى يشككون فى كل ما سبق، ويشككون أيضًا فى نتائج الانتخابات الأخيرة، ومعهم الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبى، التى رأت أن تلك الانتخابات «غير حرة وغير نزيهة»، بينما تعهدت روسيا بدعم لوكاشينكو ومساعدته عسكريًا ضد أى تدخل خارجى، وأكدت أنها على «قناعة بأن الخيار الذى قام به الشعب البيلاروسى سيسمح بمواصلة تجاوز التحديات الماثلة أمام الجمهورية، وسيساعد فى تعزيز الصداقة بين بلدينا الشقيقين».
بين هؤلاء وأولئك، طالبت «مينسك» الدول الأخرى بعدم التدخل فى شئونها الداخلية، والامتناع عن الإدلاء بـ«تصريحات رنانة» حول ما تشهده البلاد، محذرة من أن ذلك قد يؤدى إلى إشعال فتيل الاضطرابات فى الجمهورية السوفيتية السابقة، التى يبلغ عدد سكانها ٩.٥ مليون نسمة، وتحدها روسيا من الشرق والشمال الشرقى، أوكرانيا من الجنوب، بولندا من الغرب، لاتفيا من الشمال، وليتوانيا من الشمال الغربى.
لا حدود، إذن، لروسيا البيضاء مع ألمانيا، ومع ذلك، قال أولاف شولتز، السياسى الألمانى المعروف بمساعيه التوافقية، فى حوار نشرته جريدة «بيلد»، إن لوكاشينكو «هذا ديكتاتور، ومن ثم فهو يحتاج لتصريحات واضحة ولغة واضحة». وزعم أنه «مقتنع تمامًا بأن هذا الرئيس لم تعد لديه أى شرعية، وإلّا لم يكن ليحكم بمثل هذه القوة الوحشية التى لا يمكن تصورها».
شولتز، هو مرشح الحزب «الاشتراكى الديمقراطى» لخلافة ميركل، فى الانتخابات المقرر إجراؤها العام المقبل، وكان قد تلقى صفعة، العام الماضى، عندما فضل أعضاء الحزب ساسكيا إسكن ونوربرت والتر بورجانس، لقيادة الحزب الأقدم فى ألمانيا، والذى تدهورت شعبيته، ولم تعد استطلاعات الرأى تمنحه أكثر من ١٥٪ من نوايا التصويت، بعد أن حصل سنة ٢٠١٧ على ٢٠.٥٪ من الأصوات، وهو أدنى مستوى له تاريخيًا.
الموقف الأمريكى له أسبابه، فمع تزايد تحركات حلف شمال الأطلسى، «الناتو»، على مقربة من الحدود الروسية، ومع قيام الولايات المتحدة بتحريك وحداتها من ألمانيا وإعادة نشرها فى بولندا، زار مايك بومبيو، وزير الخارجية الأمريكى، بيلاروسيا، منذ شهور، وحاول إقناع لوكاشينكو بالتخلى عن اعتماده على النفط والغاز الروسيين، وقدم له وعودًا بأن واشنطن قادرة على توفير احتياجات بلاده من النفط والغاز بأسعار منافسة، مع وعود مغرية أخرى من بينها رفع العقوبات المفروضة على مينسك، ومساعدتها فى تطوير اقتصادها وتعزيز تعاونها مع الاتحاد الأوروبى.
برفض لوكاشينكو هذا العرض، يمكنك أن تتفهم محاولة الولايات المتحدة الإطاحة به، لكن غير المفهوم هو موقف الاتحاد الأوروبى، وتحديدًا موقف ألمانيا، الذى كان عبثيًا ومثيرًا للدهشة أو السخرية أن يأتى ذلك الموقف على لسان أولاف شولتز، الذى سبق أن تعرّض حزبه، الحزب الاشتراكى الديمقراطى، لضغوط من المفوضية الأوروبية، لكى لا يشارك فى حكومة ميركل، التى ستكمل العام المقبل ولايتها الرابعة، لكنه لم يستجب لتلك الضغوط.
.. وأخيرًا، كنا نعتقد أن الديمقراطية هى أن يختار الشعب، لكن الأمريكيين والأوروبيين خرجوا بتعريف جديد يشترط موافقة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى على هذا الاختيار، وعليه، ستعود سياسة تشديد آليات تعامله مع بيلاروسيا، عبر فرض مزيد من العقوبات وإعادتها إلى العزلة الدولية، التى عانت منها طويلًا، بينما ستواصل موسكو دعمها مينسك، كما فعلت طوال السنوات الماضية، وكانت النتيجة، وستكون، هى صمود لوكاشينكو أمام العقوبات والعزلة.