رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مصطفى كمال أتاتورك



تمر تركيا اليوم بمرحلة جديدة من تاريخها المعاصر، إذ نشهد الآن عملية منظمة للتخلى عن الميراث الأتاتوركى، ولا يدخل كلامنا هذا فى إطار الجدل السياسى الدائر فى الشرق الأوسط حول سياسة أردوغان فى المنطقة، كما لا يهدف إلى المكايدة السياسية للظاهرة الأردوغانية، وإنما هو رصد تاريخى لدور مصطفى كمال أتاتورك وآثاره فى خلق تركيا المعاصرة، هذا الميراث الذى تستند إليه المعارضة التركية الآن أمام الظاهرة الأردوغانية.
وحتى لا نقع فى شباك المكايدات الإعلامية والسياسية الدائرة الآن، سنعود إلى التاريخ لنقدم شهادة عميد المدرسة التاريخية المصرية «محمد شفيق غربال»، وإعجاب جيله بتجربة أتاتورك مُنقِذ تركيا، وواضع أساس نهضتها الحديثة.
إذا راجعنا الأعمال الكاملة لتراث غربال، التى جمعها ودرسها دكتور حسام عبدالظاهر، وقدم لها دكتور أحمد زكريا الشلق، تستلفت انتباهنا الدراسة المهمة التى أعدها غربال عن «الجمهورية التركية»، ونشرت فى دائرة المعارف الإسلامية؛ يوضح شفيق غربال، المعاصر لأتاتورك، الحالة التى وصلت إليها الدولة العثمانية نتيجة هزيمتها فى الحرب العالمية الأولى ١٩١٤- ١٩١٨، ويشير غربال إلى مستجد غاية فى الأهمية، وهو الخطر الداهم هذه المرة على «أرض الوطن التركى»؛ إذ هُزِمَت الدولة العثمانية من قبل أكثر من مرة، لكن لم يجرؤ أحد على اقتحام عقر دار الدولة، أما هذه المرة «فقد تعرض الأناضول، من قلب تركيا، للتقسيم والتراضى بين الإيطاليين والفرنسيين واليونان... كما احتلوا إسطنبول مقر السلطنة نفسها وسيطروا على السلطان ورجاله».
من هنا ينتفض كمال أتاتورك ورفاقه وما تبقى من الجيش التركى للدفاع عن «القومية التركية» وليس عن السلطنة العثمانية، وينجح أتاتورك فى الانتصار على هؤلاء الحلفاء واستعادة أرض الأجداد: «كان قيام الكماليين إذن كله جرأة وإقدام وإيمان وبُعد نظر»، واستطاع أتاتورك الحفاظ على «الدولة التركية» قبل أن تتلاشى تمامًا. ويذكر غربال أن أتاتورك استطاع أن يتخلص من عبء الدولة العثمانية، ويعلن الجمهورية التركية على أساس قومى، لهذا أصبح بحق «أبوالترك»، ونقل أتاتورك العاصمة من إسطنبول إلى أنقرة ليبدأ عصرًا جديدًا، عصر الجمهورية: «يقوم برنامج أنقرة على قاعدتين أساسيتين، أولاهما استقلال الجمهورية التركية استقلالًا تامًا وثانيتهما تنظيم الحياة تنظيمًا مستمدًا من أصول الحضارة التركية». أما بالنسبة للإسلام، فقد فهمت أنقرة أتاتورك «أن الإسلام عقيدة دينية، وليس فى نظرهم نظامًا سياسيًا أو اجتماعيًا». وربما يأخذ غربال على أتاتورك ما أطلق عليه «الهدم العنيف»، ويقصد به المتغيرات الحادة فى المجتمع التركى من إلغاء الخلافة، وإلغاء تعدد الزوجات، واستبدال حروف الكتابة من العربية إلى اللاتينية، ولكن يحمد له ما قام به من «نهضة إصلاحية، فنشأ جيل جديد من الترك معتز بقوميته».
إن ما نراه الآن فى تركيا من تجاوز الإرث الأتاتوركى، ومحاولة إحياء السلطنة العثمانية بشكل جديد، هو محاولة عكس تيار التاريخ. فالتاريخ لا يعود إلى الخلف، من الممكن نقد تجربة أتاتورك، ولكن من الصعب تجاوزها وإعادة إحياء الماضى.