رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

رحلة ممتعة مع الأدب الرهبانى «٢-2»


نتابع الرحلة الممتعة مع الأدب الرهبانى من خلال كتاب «انطلاق الروح» الذى كتبه شاب، وهو على بداية حياته الرهبانية، لأنه كان يعيش الرهبنة بصدق فى فترة شبابه.
عندما أجابه الملاك فى صرامة وصراحة: «إننى أعرفك جيدًا، وهم أيضًا يعرفونك، ولكنك مع ذلك لست بخادم فهذا حكم الله». لم أحتمل تلك الكلمات، فوقعت على قدمى أبكى فى مرارة، ولكنّ ملاكًا آخر أتى ومسح كل دمعة من عينى، وقال لى فى رفق: «إنك يا أخى فى المكان الذى هرب منه الحزن والكآبة، فلماذا تكتئب؟ تعال معى ولنتفاهم».
جلسنا منفردين نتناقش، فقال لى: «إن أولئك الذين تراهم فى مدينة الخدام قد كرسوا كل حياتهم لله، فكانت كل دقيقة من أعمارهم تُنفق فى الخدمة. أليست هكذا كانت حياة بولس الرسول وباقى الرسل؟ أليست هكذا كانت حياة موسى والأنبياء؟ أليست هكذا كانت حياة الأساقفة والكهنة والشمامسة؟ أليست هكذا كانت حياة القديسين؟ أما أنت يا صديقى فلم تكن مكرسًا بل كنت تخدم العالم، وكل ما لك من خدمة روحية هو ساعة واحدة فى الأسبوع تقضيها فى مدارس الأحد، وأحيانًا كانت خدماتك الأخرى تجعلك تعطى لله ساعة ثانية، فهل من أجل ساعتين فى الأسبوع تريد أن تجلس إلى جانب الرسل والأنبياء والكهنة فى مدينة الخدام؟».
وكنت مطرقًا خجلًا أثناء ذلك الحديث كله، غير أننى قاومت خجلى وتجرأت وسألت الملاك: «ولكننى أرى فى مدينة الخدام بعضًا من زملائى مُدرسى مدارس الأحد وهم مثلى فى خدمتى». فأجابنى الملاك: «كلا! إنهم ليسوا مثلك. حقيقة إنهم كانوا يخدمون ساعة أو أكثر فى مدارس الأحد، ولكنهم كانوا يقضون الأسبوع كله تمهيدًا لتلك الساعة، فكانوا يصرفون وقتًا كبيرًا فى تحضير الدروس ووسائل الإيضاح، وطرق التشويق، والصلاة من أجل كل ذلك، وبحث حالات التلاميذ واحدًا واحدًا، والتفكير فى طريقة لإصلاح كل فرد على حدة، يُضاف إلى ذلك انشغالهم فى الافتقاد، وفى ابتكار طرق نافعة لشغل أوقات تلاميذهم أثناء الأسبوع- ثم كانت لهم خدمات أخرى مخفية لا تعرفها، وهكذا كانوا يعتبرون الخدمة الروحية عملهم الرئيسى، ويرون باقى أعمال العالم أمورًا ثانوية- لا أعنى أنهم أهملوا مسئولياتهم وواجباتهم العالمية بل كانوا مخلصين لها جدًا وناجحين فيها للغاية وإن كان عملهم العالمى أيضًا لا يخلو من الخدمة، وهكذا حسبهم الله مكرسين».
وعجبت من هذه العبارة فسألت: «وكيف أستطيع أن أكون خادمًا وأنا مشغول بعملى العالمى؟». فأجابنى الملاك: «لعلك نسيت يا أخى عمومية الخدمة! يجب أن تخدم الله فى كل وقت وفى كل مكان: فى الكنيسة وفى الطريق وفى منزلك وفى مكان عملك وأينما حللت أو تنقلت. لا يجب إذًا الفصل بين المهنة والخدمة، فعندنا فى مدينة الخدام مدرسون استطاعوا أن يجذبوا كل تلاميذهم المسيحيين إلى مدارس الأحد، وأن يصلحوهم ويتعهدوهم بالعناية المستمرة. وعندنا فى مدينة الخدام أطباء لم يتخذوا الطب تجارة، وإنما اهتموا قبل كل شىء بصحة مرضاهم مهما كانت حالتهم المالية، وكانوا فى أحيان كثيرة يداوون المريض ويرسلون له الدواء- كل ذلك دون أجر، بل كانوا يقومون بتأسيس المستشفيات والمستوصفات المجانية، وعندنا فى مدينة الخدام موظفون استطاعوا أن يقودوا كل زملائهم فى العمل إلى الكنيسة. وهناك أيضًا مهندسون ومحامون وفنانون وتُجار وصُناع: كل أولئك كانوا خدامًا فى مهنهم، فهل كنت أنت كذلك؟».
فخجلت من نفسى ولم أجب، ولكن الملاك قال لى فى تأنيب مؤلم: «هذا عن الخدمة فى مكان عملك: ثم ماذا عن خدمتك فى أسرتك!- إن يشوع الذى تراه فى مدينة الخدام كان يقول: «أما أنا وبيتى فنعبد الرب»، أما أنت فلم تخدم بيتك بل كنت على العكس فى نزاع مستمر مع أفراد أسرتك، لم يفهموك ولم تفهمهم، وتركت الكثيرين منهم يهلكون دون أن تساعدهم، وسبب كل ذلك أنك فشلت فى أن تجعلهم يحبونك ويقتدون بك. ثم ماذا عن أصدقائك وزملائك وجيرانك ومعارفك؟ كنت تزورهم فى عيدى الميلاد والقيامة دون أن تحدثهم عن الميلاد والقيامة، بل تفرح معهم فرحًا عالميًا، وأتيحت لك فرص كثيرة لخدمتهم ولم تستغلها، فهل تعتبر نفسك بعد كل ذلك خادمًا؟!».
وطأطأت رأسى خجلًا للمرة الثالثة، ولكنى مع ذلك احتلت على الإجابة فقلت: «ولكنك تعلم يا سيدى الملاك أننى شخص ضعيف المواهب ولم أكن مستطيعًا أن أقوم بكل تلك الخدمة». واندهش الملاك، وكأنما سمع هذا الرأى لأول مرة، فقال فى حدة: «مواهب! ومن قال إنك دون المواهب لا تستطيع أن تخدم! هناك يا أخى ما يسمونه العظة الصامتة: لم يكن مطلوبًا منك أن تكون واعظًا وإنما أن تكون عظة.. ينظر الناس إلى وجهك فيتعلمون الوداعة والبشاشة والبساطة، ويسمعون حديثك فيتعلمون الطهارة والصدق والأمانة، ويعاملونك فيرون فيك التسامح والإخلاص والتضحية ومحبة الآخرين فيحبونك ويقلدنوك ويصيرون بواسطتك أتقياء دون أن تعظ أو تقف على منبر، ثم هناك صلاتك من أجلهم وقد تجدى صلاتك أكثر من عظاتك».
وللمرة الرابعة تولانى الخجل والارتباك، فلم أحر جوابًا- واستطرد الملاك فى قوله: «وكان يجب عليك أيضًا- كعظة صامتة- أن تبتعد عن العثرات فلا تتصرف تصرفًا مهما كان بريئًا فى مظهره إن كان يفهمه الآخرون على غير حقيقته فيعثرهم- وهكذا تكون (بلا لوم) أمام الله والناس». وتأملت حياتى فوجدت أننى فى أحوال كثيرة جعلت الآخرين يخطئون ولو عن غير قصد.
ولم أحتمل أكثر من ذلك فصرخت فى ألم: «كفى يا سيدى الملاك، الآن عرفت أننى غير مستحق مطلقًا لدخول مدينة الخدام- فقد كنت مغرورًا يا سيدى ومغرورًا جدًا- أما الآن وقد عرفت كل شىء فإنى أطلب فرصة أخرى أعمل فيها كخادم حقيقى».
فقال لى الملاك: «لقد أعطيت لك الفرصة ولم تستغلها ثم انتهت أيامك على الأرض..». فألححت عليه وظللت أبكى وأرجوه، أما هو فنظر إلىّ فى إشفاق ومحبة وتركنى ومضى وأنا لا أزال أصرخ «أريد فرصة أخرى- أريد فرصة أخرى».
فلما اختفى عن بصرى وقعت على قدمىّ وأنا أصرخ «أريد فرصة أخرى» ثم دار الفضاء أمامى ولم أحس بشىء.
ومرت علىّ مدة وأنا فى غيبوبة طويلة، ثم استفقت أخيرًا وفتحت عينى ولكنى دُهشت، وازدادت دهشتى جدًا.. وظللت أنظر حولى وأنا لا أصدق، ثم دققت النظر إلى نفسى فإذا بى لا أزال وحيدًا فى غرفتى الخاصة متمددًا على مقعدى.. يا لرحمة الله.. أحقًا أعطيت لى فرصة أخرى لأكون خادمًا صالحًا؟..
وقمت فقدمت لله صلاة شكر عميقة، ثم عزمت أن أخبر إخوتى بكل شىء.
فأمسكت بعض أوراق بيضاء، وأخذت أكتب «حدث فى تلك الليلة..».