رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

التاريخ لا يكذب.. وأرض ليبيا شاهدة (2)


دفعت محاولات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان التدخل عسكرياً في ليبيا لاستدعاء أحداث تاريخية، وتحديداً في الفترة التي احتلت فيها الدولة العثمانية عدداً كبيراً من الدول العربية.. ما يخص ليبيا منها، أن خضعت طرابلس الغرب لحكم فرسان مالطة، حتّى هزيمتهم على يد العثمانيين العام 1551.. وهنا يُردّد الإخواني الليبي علي الصلابي رواية مكذوبة، عن قيام وفدٍ من أهالي مدينة تاجوراء الليبية بزيارة إسطنبول العام 1519 لطلب النجدة من العثمانيين، وبناءً على هذا الطلب تدخّل العثمانيون، واستولوا على طرابلس العام 1551، وكأن الصلابي يُشبّه دعوة طرابلس لتركيا ومرتزقتها ضد الجيش الوطني الليبي بتلبية العثمانيين لإنقاذ أجدادهم من الإسبان.. هذه الرواية نقلها الصلابي عن ابن غلبون، الّذي عاش في بداية حكم القرمانليين في ليبيا، وكان مُقرّباً منهم، فعمل على شرعنة حكمهم، فكان ذلك سبب اختلاقه لهذه القصّة في كتابه (التذكار فيمن ملك طرابلس، وما كان بها من الأخبار).. وتعليقاً على ذلك كتب المؤرّخ الليبي الشيخ الطاهر الزاوي، ومُحقّق كتاب ابن غلبون ما يلي: (ممّا يشكك في صحّة رواية هذا الوفد، أنّ الأسطول العثماني كان موجوداً في البحر الأبيض، وأن القوّاد العثمانيين كانوا يحاربون في الشمال الأفريقي، وفي تاجورة، وهذا ما يجعل النجدة قريبةً، توفر على الطرابلسيين مشقّة السفر إلى الآستانة).. ويتّفق محمد بازامه، مؤلّف كتاب (ليبيا في عشرين سنة من حكم الإسبان) مع الزاوي، ويقول: (نقطة واحدة في هذا الأمر تجعلنا نتحفّظ في قبول فكرة دعوة أهل تاجوراء هذه؛ تلك هي طول الفترة الزمنية بين سفر الوفد، ومجيء الأتراك إلى طرابلس واشتراكهم في الصراع، والتي امتدّت لأكثر من 10 سنوات).. ويعلّل بازامه اختلاق هذه الرواية بقوله: (يرتكز شكُّنا إذا كان لهذه النقطة قيمةً على أساس ما للدولة العثمانية من مصالح سياسية في اختلاقها ودسّها على التاريخ.
عادت هذه الرواية المكذوبة إلى تصدّر الواجهة الإعلامية عقب توقيع الاتفاقية الأمنية، واتفاقية ترسيم الحدود، بين حكومة الوفاق في طرابلس، والتي تسيطر عليها جماعة الإخوان المسلمين، ودولة تركيا.. وكأنّ لسان حال الصلابي في لقائه مع وكالة الأناضول بتاريخ 9 يناير 2020، يقول إنّ وصول مرتزقة أردوغان، هو بمثابة تلبيةٍ لدعوة أهل طرابلس، كما لبّى أجدادهم دعوتهم لإنقاذهم من الإسبان الصليبيين، وكأنّه يُشبه الجيش الوطني اللّيبي بالغزاة الإسبان.. وبعد تصريحات الصلابي انطلقت الماكينة الإعلامية للإخوان وتركيا، لتنشر التصريحات على نطاقٍ واسع، لتبييض صورة الماضي العثماني في ليبيا، ولترويج فكرة أنّ التدخل العسكري التركي سيُعيد إلى ليبيا الجنّة العثمانية المفقودة.
أهم من محاولة الإخوان شرعنة احتلال قوى أجنبية لبلادهم، وهو أمر دأبوا عليه، حين شرعنوا الغزو التركي لسوريا والعراق، ثمّ الآن ليبيا، هو السؤال: كيف سقطت شمال أفريقيا ـ ليبيا، تونس، الجزائر ـ في يد الاستعمار الإيطالي والفرنسي؟.. وأين كان العثمانيون من ذلك؟.
الإجابة على هذا تطول، وفي كتب التاريخ ما فيه الكفاية، ويمكن تلخيص مسؤولية العثمانيين عن ذلك بما يلي: أنّ الحكم العثماني لم يُفد شمال أفريقيا شيئاً، بل سخر هذه البلاد لخدمة رفاهية طبقة محدودة العدد من الحكّام والجنود الأتراك، وحوّلوها إلى قواعد للقرصنة، وأرهقوا الأهالي بالضرائب والغرامات، دون تقديم أية خدماتٍ لهم، وتسبّبت القرصنة في جلب العدّاء الأوروبي لشمال أفريقيا، وتعرّضت بسببه مدن الساحل للقصف مرّات عدّة.. أدّى فساد الحكم التركي، وتدمير الحياة الاقتصادية، وإثارة النعرات القبائلية لضرب القبائل ببعضها، إلى وقوع البلاد فريسة سهلة في يد الاحتلال.. والكتابان اللذان أشرنا إليهما سابقاً، يعتبران أهم مرجعين عن الحكم التركي لليبيا، وهما لم يسردا وحسب فظائع الولاة وما فعلوه بأهل طرابلس، بل نبّها إلى الآلية المتعسفة التي كان يحكم بها الأتراك ذلك البلد، حيث كان يؤتى (بالقهوجي) لتعيينه والياً، و(بالترزي) أيضاً، الأمر الذي زاد في فظاعة الأحداث وتفاقم الفوضى والفساد في ليبيا.
وبالفعل، مارس المحتل العثماني أبشع الجرائم في الأراضي الليبية، فامتلأت بطونهم بأموال الرعية وتفننوا في فرض الضرائب المختلفة على أتفه الأشياء لإشباع ملذاتهم الشاذة على حساب المُعدمين، فكانت الضرائب مورداً رئيساً لميزانية السلطنة والولايات، وكان يُرسل فرماناً للوالي بقيمتها السنوية.. وكانت قسوة الضرائب تتمثل في نظام الالتزام، إذ يعرض الوالي حق تحصيل الضرائب في مزاد علني، ليستقر على ثري عثماني أو أحد قادة الجيش، لينطلق هؤلاء في نهب جيوب الليبيين، وإذا عجز شخص عن الدفع يتم القبض عليه، ويربط في ذيل حصان حتى السجن، ما دفع بعض الفقراء إلى الهروب فور وصول الجباه العثمانيين.. فرضت السلطنة على الليبيين ضريبة (الويركو) أو (الميري)، وأجبروا الذكور البالغين على دفع 40 قرشاً سنوياً، وفرضوا مثلها على ملاك الحيوانات والأشجار، وسرت أيضاً على الذبائح، وعوقب الممتنعون عنها بالسجن ثلاثة أشهر، مع إمكانية التجديد إذا عجز أهله عن الوفاء.. ولم يكن مقابل الضرائب أية منافع، فقد عانى الفلاحون الليبيون من إهمال العثمانيين للزراعة خاصة في سنوات الجفاف، وعجز المزارعون عن تسديد ضريبة (العُشر) البالغة 10% من قيمة المحاصيل، وكانت تحدد في أبريل من كل عام، فيما حصل الجباه العثمانيين على إتاوة 16 ليرة من كل مزارع، وأدت المحسوبية والرشوة دورها في إعفاء المُوسرين، وأُلزم الفقراء وغير القادرين بسداد ضرائب الأغنياء.. وفي مواسم الجفاف، كانت الديون تتراكم على الفلاحين، فكان الفرار ملجأهم من بطش العثماني، فتركوا مزارعهم نهباً للتصحر، مما أدى إلى تراجع الحبوب والمحاصيل في الولاية.
قضى العثمانيون على التجارة في ليبيا، لإتاحة الفرصة للمحتكرين الأجانب، عن طريق فرض الولاة العثمانيين على التجار الليبيين ضرائب باهظة، منها ضريبة (رسوم فتح بندر) المفروضة على كل مواطن يرغب في فتح محل تجاري، مما أدى إلى إغلاق العديد من المحال بعد إعلان إفلاسها.. ولم يكتف العثماني بهذا البطش، بل قام بفرض الضرائب على أتفه الأشياء، مثل ضريبة (التمتع) مقابل الحصول على الخدمات العامة واستخدام الطرق، وضريبة (المرور) التي ألزم من خلالها الولاة الرعية بدفع ضريبة مقابل التنقل داخل البلاد وخارجها، خلافاً عن رسوم (العزوبية) التي فرضتها السلطنة على الليبيين، سواء كانوا متزوجين أو عزاباً، حيث فرضوا على كل بالغ أعزب ضريبة بلغت 15 بارة سنوياً (العملة العثمانية)، وإذا تيسر له الزواج زادت الضريبة إلى 30 بارة سنوياً، وإذا رزق بمولود أُلزم بدفع 60 بارة للذكر و30 للأنثى.. علاوة على ذلك.. تفنن الولاة الجدد في فرض الضرائب على الرعية، واستهلوا ولاياتهم بفرض 40 بارة (رسوم قدوم)، تجمع يوم قدوم الوالي إلى طرابلس، كما تكفلت الأهالي بنفقات الحفلات والسهرات في قصور الوالي، وفرضت الضرائب في الأعياد والمناسبات تحت اسم (رسوم خلعت) وبلغت في بعض الأحيان نحو 40 بارة.. ولم تكتف الدولة العثمانية بهذا القدر من الضرائب الظالمة، بل فرضت الإتاوات على الرعية كلما خاضت غمار الحرب باسم (تبرعات الجهاد)، بإضافة 6% على جميع الضرائب لصالح التجهيزات العسكرية، الأمر الذي كان يقابله الأهالي بالتذمر.
لم تقتصر انتهاكات الاحتلال العثماني في ليبيا، على إراقة وسفك دماء عشرات الآلاف من الليبيين، بل امتدت لهدم ونسف التاريخ الليبي الأمازيغي وغيره من الحضارات الإنسانية القديمة.. ودمر العثمانيون نحو 35 قصراً من قصور الليبيين التاريخية، في الفترة من 1843 ـ 1844، وتحديداً في منطقة (جبل نفوسه) في كل من مدن: جادو والرجبان والزنتان والرحيبات ويفرن وككلة والحرابة والرياينة والخلايفة.. وكانت تستخدم تلك القصور في تخزين المؤن والأغذية وما يحتاج إليه الناس، أشبه ما يكون بمخازن عامة، وأيضاً كمكان لوضع الأمانات، سواء لأهل المنطقة أو المسافرين، خاصة من الحجاج وتعود ملكيتها لجميع المواطنين من أهل المنطقة أو تملكها عائلة وتأخذ مقابل التخزين نسبة مئوية من المحصول المخزن، ويرجع حجم وعدد الغرف في كل قصر بما يتناسب مع عدد سكان المنطقة.
وبعد.. فتلك يد الخراب التي كانت للعثمانيين في ليبيا، فكيف ننتظر من أحفادهم الخير؟.. تلك إجابة مستحيلة.
حفظ الله مصر وسائر بلادنا.. آمين.