رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لبنان بلا عاصمة.. وجبران توينى مات مرتين


لم تخطئ العين كثيرًا عندما ترمق تلك المدينة من بعيد، لتعرف شوارعها وتعرف حاراتها والناس الذين لطالما كانوا أهلًا لنا وعزوة وأصدقاء، هم أهل بيروت التى لى معها ذكريات وأسرار منذ أن وطأت قدماى بيروت فى نهاية عام ١٩٩٩ لتستمر العلاقة مع هذه المدينة حتى اليوم.
فى شارع ويغان جلست مع صديقى جبران توينى الذى راح يحدثنى عن ذكريات الحرب اللبنانية، وعن دور والده غسان توينى، فى مواجهة الاحتلال الإسرائيلى، وكيف تم قتل لبنان مرات ومرات على يد أبنائه تارة، وعلى يد أشقائه تارة أخرى.
ربطتنا أنا وجبران توينى متشابهات كثيرة، ومتناقضات أكثر، فهو مؤمن كثيرًا بأن العرب قتلوا أنفسهم ودمروا بلادهم بأيديهم، بينما كنت مؤمنًا بنظرية أننا نتعرض لمؤامرة وأن هناك من أسهم فى تراجع الوعى العربى، بينما كان جبران يعتقد بأنه لا مؤامرة تحصل علينا فنحن متآمرون على أنفسنا.
كان مرفأ بيروت وشارع شارل الحلو بالنسبة لى علامة بارزة لبيروت، دونهما لا أعتبر نفسى أنى فى بيروت، وكذا الحال وأنا الباحث والدارس فى الجامعة الأمريكية ببيروت، فالمسافة من الجامعة عبر عين الميرسة إلى مبنى جريدة النهار فى شارع ويغان لا تستغرق سوى دقائق لا تتعدى أصابع اليد، «قبل أن تزدحم بيروت بسبب ارتفاع أعداد السيارات فيها»، وكان المرفأ بالنسبة لجبران وبالنسبة لى أيضًا المهرب من مبنى جريدة النهار، حيث مكتب جبران الذى لم يكن يحب المكاتب ولم يرغب يومًا ما فى أن يجلس خلف مكتب، هو المؤمن بأن الصحفى يجب ألا يكون موظفًا، وكان كثيرًا يعيب على بعض الصحفيين إصرارهم على الجلوس فى المكاتب، ومن يعرف جبران فإنه سيعرف أنه يحب أن يلتقى المحبين خارج مكتبه الذى دمره انفجار الثلاثاء الأسود فى المرفأ.
كان جبران توينى يحسدنى كثيرًا، كونى اتخذت من القاهرة مقامًا ومسكنًا وهو المحب للقاهرة، والذى كان يقول إن من يرد أن يعرف معنى الإنسان فعليه أن يزور القاهرة، فهى عمدة المدن وقاهرة المحتلين ودرة الحواضر، بينما بغداد، كما يراها جبران، تلك الجميلة التى خطفها الموت باكرًا، مع جبران عرفت كل شوارع بيروت ومعه زرت طرابلس وصيدا، ومعه عرفت كيف يكون للقلم دور فى حياة الدول والشعوب.. اليوم مات جبران توينى مرتين.
كانت بيروت تشكل علامة مهمة فى تفصيل الواقع السياسى العربى، بل وظلت بيروت قبلة لأهم الأحداث السياسية، فمنذ مؤتمر القمة العربية عام ٢٠٠١ الذى كان بداية لطرح مسار جديد لحل القضية الفلسطينية عبر مبادرة الملك الراحل عبدالله الذى قدم مبادرة عربية تعد هى الأفضل حتى الآن- كانت بيروت محطة مهمة بعد استشهاد الرئيس رفيق الحريرى، وأتذكر كيف أن بيروت ضجت بمئات من الشخصيات العربية التى حضرت عزاء الحريرى، والذى كان مقتله انطلاقة جديدة فى حياة لبنان، كما كان لمقتل جبران توينى انطلاقة لحياة جديدة فى عالم الصحافة، واليوم وبعد ١٥ عامًا لمقتل جبران يقتل من جديد، بعد أن دُمر مبنى «النهار».
حملنى حبى لبيروت ولبنان لأن أعتبره بلدى الثالث، فبعد القاهرة وبغداد كان لى بيت فى بيروت، وكان لى أهل فى بيروت التى ما من زائر لها ورف شوارعها إلا وأحبها وأحب الناس فيها، ففى بيروت ترى العالم العربى كله هناك، إنها باريس العرب فلا شارع فى الجبل ولا فى طرابلس ولا فى جونية وفى صيدا إلا ويحمل اسمًا لفنان مصرى، أو شاعر عراقى أو كاتب سورى.
نعم لبنان بلا بيروت اليوم، هذه الكارثة التى لم أرَ لها مثيلًا، وأنا الذى عشت حروبًا وكوارث، وأنا الذى عاش أحداث تسونامى فى ماليزيا، وشاهدت مدنًا تعرضت لقصف وتعرضت لزلازل، وتراقص أمام عينى الكثير من المشاهد.. لم ولن يُكرر مثل انفجار بيروت فى تاريخى الصحفى.. ولن ولم أرَ له مثيلًا، حتى وأنا الذى تحمل ذاكرتى بقايا دمار بغداد، لكن لا دمار مثل الذى حلّ فى بيروت