رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الهاربون من تونس



بينما كان الإخوان، داخل تونس وخارجها، يحتفلون مساء الخميس الماضى، بنجاحهم فى إنقاذ راشد الغنوشى «٧٩ سنة»، زعيم «حركة النهضة» الإخوانية، من محاولة إزاحته عن رئاسة البرلمان، كانت وحدة بحرية تابعة للجيش التونسى تقوم بإنقاذ ٢٧ تونسيًا، تتراوح أعمارهم بين ٢١ و٤٠ سنة، أبحروا خلسة فى عمليتى هجرة غير شرعية، نحو السواحل الإيطالية.
قبلها بأربعة أيام، تحديدًا فى ٢٦ يوليو الماضى، ذكرت مفوضية الأمم المتحدة لشئون اللاجئين، فى تقرير، أن التونسيين يشكلون حوالى ٤٥٪ من المهاجرين بصورة غير شرعية إلى سواحل إيطاليا الجنوبية، الذين قدر عددهم بـ١٢ ألفًا. والنسبة نفسها تقريبًا أكدها لويجى دى مايو، وزير الخارجية الإيطالى، فى حوار نشرته جريدة «إل سولى ٢٤»، الثلاثاء الماضى.
بالتزامن، حذرت تقارير أوروبية، إعلامية وحقوقية، من أن ارتفاع موجات هجرة التونسيين إلى أوروبا، سيؤدى إلى كارثة إنسانية تشبه تلك التى عاشتها هذه السواحل سنة ٢٠١١. ومع اكتظاظ مخيمات المهاجرين غير الشرعيين فى جزيرة «لامبيدوزا»، وفى ظل انتشار وباء «كورونا المستجد»، تعالت الأصوات المطالبة بإعلان حالة الطوارئ، كان أبرزها صوت توتو مارتيلو، عمدة الجزيرة، الذى نقلت عنه وكالة أنباء «أنسا» أن الوضع أصبح خارجًا عن السيطرة.
فى تونس، يصفون الهجرة غير الشرعية بـ«الحرقان»، وهو الوصف الذى يرجع، غالبًا، إلى قيام المهاجرين بحرق بطاقات هوياتهم أو جوازات سفرهم، قبل صعودهم إلى المراكب التى تقلهم إلى الشاطئ الآخر، أو إلى الموت. وفى مقابل نجاح خفر السواحل التونسى، بشكل شبه يومى، فى إحباط محاولات العبور إلى الشاطئ الآخر، تقول الأرقام إن كثيرين يتمكنون من الإفلات.
طبقًا لما ذكره المنتدى التونسى للحقوق الاجتماعية والاقتصادية، فى تقرير حديث، فإن الهجرة غير الشرعية، أو غير النظامية، تعبّر عن «حركة احتجاجية رافضة للوضعية الهشة» التى يعيشها التونسيون، موضحًا أنها «تحولت إلى سلوك جماعى احتجاجى حاملًا فى طياته الغضب من مسار الحكم وعدم الرضا والبقاء تحت خيارات حكومية لا تلبى الحاجات الاجتماعية».
تحولات نوعية طرأت على أجناس المهاجرين وأعمارهم، وأظهرت مقاطع فيديو، انتشرت على شبكات التواصل الاجتماعى، عائلات كاملة، برجالها، نسائها وأطفالها، على متن قوارب صغيرة فى طريقها إلى الشاطئ الآخر، وهى المقاطع التى فسرها تقرير المنتدى التونسى، غير الحكومى، بأن الهجرة باتت مشروعًا عائليًا، مؤكدًا أن مناخ الخيبة والإحباط يجمع الإناث والذكور على حد سواء، بسبب البطالة والحرمان والفقر والسياسات الحكومية. وبالتالى فإن «الأسباب الرئيسية لهجرة النساء بطريقة غير نظامية، مثلها مثل أسباب الذكور».
عقب لقائها بالرئيس التونسى، قيس سعيد، الإثنين الماضى، قالت لوتشيانا لامورجيزى، وزيرة الداخلية الإيطالية، إنها ناقشت معه قضية تفاقم عدد المهاجرين القادمين إلى إيطاليا من تونس، مؤكدةً أنها «وجدت قبولًا وتفهمًا من طرف الرئيس»، والثلاثاء، قال لويجى دى مايو، وزير الخارجية الإيطالى، إنه سيزور تونس من أجل توقيع اتفاقية بهذا الشأن.
لجريدة «إل سولى ٢٤»، الإيطالية، قال دى مايو، إن ٥٢٠٠ من المهاجرين غير الشرعيين الذين وصلوا إلى دولته انطلقوا من تونس، وشدّد على ضرورة إعادتهم إلى بلدهم، لأنه لا يوجد سبب لمنحهم حق اللجوء أو السماح ببقائهم فى إيطاليا. غير أن تقريرًا صدر، فى اليوم نفسه، عن المحكمة الأوروبية للتدقيق، وهى إحدى المؤسسات الرقابية فى الاتحاد الأوروبى، كشف عن «تعثر تنفيذ عمليات إعادة المهاجرين غير الشرعيين المتواجدين على أراضى الدول الأعضاء فى الاتحاد إلى بلدانهم الأصلية، أو لبلد ثالث آمن». وأكد التقرير أن المشكلة تكمن بشكل أساسى فى عدم تعاون الدول الأصلية، ورفضها استقبال العائدين «لأسباب داخلية، مالية، وقانونية».
ما يوصف بالانتقال الديمقراطى فى تونس نال (ولا يزال) إشادات دولية واسعة، فى حين يقول الواقع إن التونسيين يعانون أوضاعًا سياسية واقتصادية خانقة، زاد من حدتها انتشار فيروس «كورونا المستجد» وتزايد نفوذ الأذرع التركية القطرية، وربما الإسرائيلية، وتغليب الإخوان، كعادتهم، لمصلحتهم: مصلحة الجماعة وتنظيمها الدولى، على مصلحة البلد.
ظروف صعبة وأجواء متشنجة، التى عاشتها تونس، قبل استقالة حكومة إلياس الفخفاخ، لا تزال مستمرة. والمشاورات الخاصة بتشكيل الحكومة الجديدة «لا تزال متواصلة»، بحسب تصريحات نقلتها «وكالة تونس إفريقيا للأنباء» عن هشام المشيشى، وزير الداخلية فى الحكومة المستقيلة، رئيس الحكومة المكلف، بأن حكومته ستكون «لكل التونسيين، وستسعى إلى تحقيق تطلعاتهم». وكان أبرز ما استوقفنا فى تلك التصريحات، تحذيره من أن «خطر الإرهاب ما زال قائمًا». خطر الإرهاب أو الإخوان، بالفعل، ما زال قائمًا، وأيضًا، لا يزال آلاف التونسيين يركبون البحر ويخاطرون بحياتهم، نتيجة فقدانهم الأمل فى الحاضر وإحساسهم بأبدية الأزمات، بينما الطبقة السياسية، بأحزابها وحركاتها، عاجزة عن فعل أى شىء غير المزايدات وإطلاق الشعارات.