رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لماذا تعثر الهجوم التركى على محور سرت- الجفرة؟



حين جلس أردوغان أوائل مايو، وخلفه خريطة كبيرة لليبيا، وأمامه كاميرات قناة «تى آر تى» التركية الفضائية، كان ممسكًا فى يده بقلم «ليزر»، يصوبه فى استعلاء إلى المناطق التى سيطر عليها فى الغرب الليبى، ويتباهى باعتزامه السيطرة على محافظة سرت الغنية بالنفط والغاز، وعلى قاعدة «الجفرة»، ذات الموقع الاستراتيجى الحاكم!!، مؤكدًا «أن العمليات ستصبح بعد ذلك أكثر سهولة».. الغطرسة التى تحدث بها أردوغان أوحت للجميع بأن المهمة فى متناول يده، وأنها لن تستغرق سوى أيام قليلة، وربما ساعات.. لكن الأمر طال، وربما أضحى حلمًا مستحيلًا، أو عملية انتحار يائسة.. كيف تبدلت الأوضاع واختلت التوازنات على هذا النحو؟!

الأزمة مع روسيا

تركيا منذ تدخلها فى ليبيا وهى تلعب على وجهين؛ الأول تراهن به على اكتساب الدعم السياسى الأمريكى، استنادًا إلى أن تدخلها فى ليبيا يطيح بالوجود الروسى لحساب حلف «ناتو»، الثانى تسعى من خلاله إلى تحقيق تفاهمات مع روسيا، بحكم ثقلها العسكرى على الأرض الليبية، كمصدر للسلاح، وفى فترة من الفترات كداعم بمقاتلى «فاجنر».. الخطة التركية كانت تستهدف الوصول مرحليًا إلى صيغة «أستانا» الليبية، على أن تنقلب عليها بدعم أمريكى إيطالى لتنفرد مستقبلًا بالساحة الليبية.. لكن روسيا لم تتفق مع الطلب التركى، الخاص بسحب قوات الجيش الوطنى من سرت والجفرة، فبدأ تبادل الضغوط المستترة بينها وبين تركيا.
تركيا تحتل المرتبة الثانية فى استيراد الغاز الروسى، لكنها بدأت تعتمد على استيراده من أذربيجان والولايات المتحدة وأستراليا.. معدل استيرادها للغاز الروسى خلال مارس الماضى أقل بـ٧ مرات عن مارس ٢٠١٩، وبـ١٤ مرة عن مارس ٢٠١٨.. فى شهر مايو تم إغلاق خط أنابيب «بلوستريم».. وأعيد إغلاقه خلال الأسبوع الأخير من يونيو، ثم توقف فى ٢٧ يوليو لمدة أسبوعين، وذلك بسبب نقص طلب تركيا، التى تلوح بتوقيع اتفاق طويل المدى مع أمريكا.. روسيا من جانبها لا تدخر وسعًا للضغط المقابل على تركيا فى الساحة الليبية، من خلال تسليحها للجيش الوطنى بالمقاتلات والقاذفات الحديثة وشبكات الدفاع الجوى المتطورة وصواريخ سطح- بحر، كما تتعجل تسليم مصر الدفعة الأولى من طائرات السيطرة الجوية «سوخوى ٣٥».. ضغوط متبادلة بين روسيا وتركيا نأمل الاستفادة منها، وألا تنتهى بتفاهمات وتقسيم مصالح على حساب العرب.
أرمينيا وأذربيجان يخوضان نزاعًا منذ نحو ٣٠ عامًا حول منطقة ناجورنى «قرة باغ» الانفصالية، التى تسيطر عليها أرمينيا منذ ١٩٩٢، إضافة إلى ٥ محافظات أخرى غرب البلاد، وأجزاء واسعة من محافظتى آجدام، وفضولى، بما يمثل نحو ٢٠٪ من الأراضى الأذرية.. الصراع بين الدولتين يمثل ساحة أخرى للضغوط المتبادلة بين تركيا وروسيا.. أنقرة أعلنت الدعم العسكرى الكامل لحليفتها أذربيجان، الرئيس أردوغان ووزير دفاعه أكار التزما بالدفاع عن أذربيجان وهددا بالرد على أرمينيا.. الجيش الأرمينى رد باستهداف مواقع أذربيجانية حدودية، فى تحد واضح لأنقرة، والجيش الروسى رد على أنقرة بمناورات ضخمة بمشاركة ١٥٠ ألف جندى و٤٠٠ طائرة حربية فى أرمينيا، بمنطقة قريبة من الشريط الحدودى مع أذربيجان.. الضغوط المتبادلة بين موسكو وأنقرة وصلت حد لى الأذرع، خلافًا لما توحى به الظواهر، وعدم حسم الموقف الروسى يثير المخاوف التركية من بدء هجوم سرت.

الصراع مع اليونان والتدخل الأمريكى

الأزمة الليبية ترتبط بشكل مباشر بأطماع تركيا فى غاز شرق المتوسط، تركيا قامت بغزو ليبيا لتسيطر على ثروات الهلال النفطى، وتتمكن من تنفيذ اتفاق الحدود البحرية غير القانونى مع السراج، ما يمكنها من الاستيلاء على حصة من غاز المتوسط، لذلك تتحرك على المحورين فى نفس الوقت وبسرعة.. تركيا أعلنت أن سفينة الأبحاث Oruc Reis ستقوم بإجراء عمليات مسح للتنقيب عن النفط والغاز، خلال الفترة من ٢١ يوليو إلى ٢ أغسطس جنوب جزر رودس وكاستيلوريزو وجنوب شرق جزيرة كريت اليونانية، وتزامن ذلك مع زيادة كبيرة فى النشاط داخل قاعدة «أكساز» البحرية التركية القريبة، حيث غادرتها ١٥ قطعة بحرية، لحقت بها قطع أخرى، حتى وصلت إلى ٢٥ سفينة عسكرية، وزارة الخارجية اليونانية احتجت رسميًا لدى أنقرة، واتهمت تركيا بالتعدى على رصيفها القارى، والجيش اليونانى أعلن «حالة التأهب»، ونشرت البحرية اليونانية بوارجها فى بحر إيجة، واحتلت مواقع رئيسية لمراقبة تحركات السفن التركية.
الإدارة الأمريكية حذرت تركيا بشدة من مواصلة أعمال التنقيب قرب الجزر اليونانية، ودفعت حاملة الطائرات النووية «دوايت أيزنهاور» و١٢ سفينة حربية إلى البحر المتوسط، لإجراء تدريبات مع القوات اليونانية جنوب جزيرة كريت، حيث مواقع التحرش التركية.. يعد هذا أول تدخل أمريكى حاسم منذ بدء الأزمة بين تركيا واليونان، وهو يكتسب أهمية فى ضوء حالة التوتر التى تسود المنطقة.. هذا الإجراء الأمريكى يعبر عن رغبة واضحة فى إظهار قدرتها على لعب دور الحكم، وتجنب الصدام بين عضوين فى حلف «ناتو»، فضلًا عن الدفاع عن مصالح واستثمارات الشركات الأمريكية العملاقة فى المنطقة «إكسون موبيل- نوبل إنيرجى».. تركيا اضطرت الى إيقاف عمليات المسح، وسارعت بسحب سفنها الحربية التى نشرتها فى المتوسط.. تراجع تركيا يعكس تخبطًا واضحًا فى التعامل مع أوضاع المنطقة.
هذا الموقف الأمريكى لا يعنى تغيير موقف واشنطن من الأزمة الليبية، فهى لا تزال تعتبر الأزمة الليبية مشكلة أوروبية، وهذا التوصيف يصب فى صالح تركيا، بحكم مكونها الأوروبى، ويفسر ذلك حرص واشنطن على تمكين المؤسسة الوطنية للنفط من استئناف عملياتها، لأن الأرصدة الاحتياطية للبنك المركزى فى طرابلس قاربت على النفاد، نتيجة استيلاء تركيا عليها، مقابل الأسلحة والمعدات التى وردتها، ومرتبات العسكريين الأتراك وعناصر المرتزقة، فضلًا عن ودائع دعم الليرة التركية دون فوائد.. هذا الوضع أدى الى انهيار الخدمات فى طرابلس والمنطقة الغربية، نتيجة عدم توافر التمويل اللازم، ما أدى إلى حالة من السخط بين السكان.. رغم كل هذه الاعتبارات فإن «حياد واشنطن النشط» يعنى عدم بلورة موقف نهائى من الأزمة، وتلك فرصة للطرف القادر على حسم المواجهة وفرض الاستقرار، فى أن يحصل على القبول الأمريكى، شريطة ضمان مصالحها.

بدء تكوين جيش الانكشارية

تركيا نقلت ١٦٥٠٠ مقاتل من المرتزقة، من سوريا إلى ليبيا، بعد أن انتهت مهمتهم هناك، وأصبح التخلص منهم أحد بنود تفاهمات تسوية الأزمة، اختلاف الظروف البيئية وارتفاع مستوى المخاطر دفع ٥٩٧٠ منهم للعودة الى سوريا، خاصة بعد أن لقى ٤٨١ منهم حتفه فى الحرب، كما هرب قرابة ٤٠٠ مقاتل سورى إلى أوروبا، دخلوا إليها بطرق غير شرعية بصفة لاجئين عبر إيطاليا، ولحق بهم قرابة ١٠٠٠ هربوا بالقوارب من مصراتة، خلال الأسبوع الذى أعقب قصف «الوطية» ودخول مصر على خط الأزمة.. نتيجة لذلك اتجهت تركيا نحو محاولة تشكيل جيش من الانكشارية، الذى يضم عناصر متنوعة الأصول، وقد بدأ بالفعل تجنيد مجموعات من التركمان السوريين، وتم تدريبهم وتجهيزهم وتجنيسهم بالتركية، وهناك دفعات جديدة فى المعسكرات التركية يجرى تحضيرها لإرسالها إلى ليبيا. قطر جندت ٥٠٠٠ شاب صومالى، انضموا رسميًا إلى جيشها، وبدأت تمنحهم الجنسية تباعًا.. موقع «ليبيا ريفيو» أكد أن تركيا وقطر تتحمسان لدفع عدد من الضباط الصوماليين لدعم ميليشيات فايز السراج.. وموقع «صومالى جارديان» أكد أن أكثر من ٢٠٠٠ صومالى، تم دفعهم بالفعل للحرب على الجبهة الليبية، الموقع أكد أن تركيا تستغل وجودها فى القاعدة العسكرية التابعة لها بمقديشو، لتجنيد شباب بشكل غير رسمى، بحجة الانضمام للجيش القطرى، وتنقلهم إلى معسكر بإريتريا، حيث يتم تدريبهم وتجهيزهم، ومن هناك يتم دفعهم إلى ليبيا.. الرئاسة الصومالية تلقت عشرات الشكاوى من أسر المجندين بشأن اختفاء أبنائهم، إلا أن وزير الخارجية أحمد عيسى عوض نفى إرسال الحكومة قواتها للقتال فى ليبيا!! متجاهلًا أن الأمر يتعلق بعمليات تجنيد فردية، لا علاقة للحكومة ولا للجيش الصومالى بها.
إسطنبول استضافت مؤخرًا لقاء جمع فايز السراج، رئيس حكومة الوفاق الليبية، ومحمد بن عبدالرحمن آل ثانى، وزير خارجية قطر، وخلوصى آكار وزير الدفاع التركى، وهاكان فيدان، مدير المخابرات التركى، ومحمد المسند، مسئول ملف ليبيا بالمخابرات القطرية، وسفير قطر بطرابلس.. الاجتماع تناول انعكاسات التدخل المصرى على الموقف العسكرى فى ليبيا.. سفير قطر أكد وصول المخصصات المالية اللازمة للاستعانة بميليشيات مسلحة تشادية، والاتصالات جارية لسرعة الاستعانة بها.

الحاجة لتدبير تسهيلات إقليمية

تركيا أدركت أن هناك قرارًا من القوى الإقليمية الرافضة لاحتلال ليبيا، بعدم تمكينها من إنشاء قواعد جوية مجهزة لاستقبال الطيران التركى القادر على توفير الدعم الجوى للعمليات، لذلك اتجهت للبحث عن بدائل قريبة داخل الإقليم.. السراج استقبل فى طرابلس رئيس وزراء مالطا روبرت أبيلا ٢٨ مايو، ووقع على مذكرة تفاهم لمكافحة الهجرة غير الشرعية وتوطيد علاقات الصداقة.. السراج زار مالطا ٦ يوليو، والتقى رئيس الوزراء، وقدم وعودًا بتكثيف الاستثمارات، بعد ذلك استقبل وزير الدفاع التركى فى أنقرة ٢٠ يوليو وزيرى داخلية مالطا بويرون كاميلارى وحكومة السراج فتحى باشاغا.. مالطا كانت تلتزم الحياد تجاه الأزمة الليبية، لكنها انسحبت نتيجة التحركات الليبية التركية من العملية «إيرينى»، وانتقدت انحيازها ضد تركيا وحكومة السراج، كما أن مواقفها أضحت تتماهى مع مواقف تركيا بخصوص دعم الوفاق.. تركيا حاليًا ترسل الأسلحة بشكل مباشر باتجاه مصراتة وطرابلس عبر مالطا، وكل الظواهر تؤكد أن مالطا قد تكون قاعدة لانطلاق الطيران التركى فى الحرب المقبلة، خاصة أن المسافة بينها وبين زوارة الليبية قرابة ٤٠٠ كم، تستغرق بالطائرة المدنية ٢٥ دقيقة. وزير الخارجية التركى مولود تشاووش أوغلو تعهد لرئيس النيجر بأن أنقرة ستكون حليفا وسندًا لبلاده، يعوضها عن كل ما خسرته وما لحق بها من أضرار اقتصادية نتيجة توقف علاقاتها مع ليبيا.. الوزير وقع فى النيجر يوم ٢١ يوليو اتفاقية للتعاون والتدريب العسكرى وبروتوكول تعاون فى مجال النقل وآخر لتنفيذ المساعدة المالية وثالث للتعاون فى مجال الشباب والرياضة.. راجمات الصواريخ والمدرعات التركية وصلت إلى ليبيا عبر صحراء النيجر حتى مدينة صبراتة.. وهناك تأكيدات بموافقة النيجر على قيام تركيا بإنشاء قاعدة عسكرية استراتيجية برية وجوية وتدريب الجيش وقوى الأمن فى النيجر وتزويدهما بأسلحة حديثة، هذه الاتفاقات لا تقتصر أهميتها على خدمة الجهد العسكرى التركى فى ليبيا، بل إنها تمكنها من النفاذ إلى قلب إفريقيا، ومنافسة فرنسا المتمركزة فى مالى المجاورة.

هجوم سرت- الجفرة متعثر حتى إشعار آخر، وربما يتحول إلى عملية انتحار يائسة، لأن مواجهة قوة مصر وتصميمها تستلزم استعدادات وترتيبات طويلة، قد يتسع وقت الأتراك للقيام بها، لكن صبر القاهرة ربما ينفد قبل ذلك، خاصة فى ظل الاستفزازات اليومية للميليشيات وجماعات المرتزقة.