رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى بيوت الله «3»



مررنا أنا وصديقتى الكاتبة العراقية رجاء الربيعى وابنتى مريم، فى طريقنا من مسجد السيدة نفيسة إلى مسجد السيدة زينب، بمسجد أحمد بن طولون، لم نتوقف عند المسجد، لكنا سرنا بمحازاة الجهة الغربية منه، حيث أشرت إلى مئذنته الملتوية وسلالمها الخارجية وأخبرت صديقتى «رجاء» بأن هذه المئذنة مستوحاة من المآذن العراقية فى العصر العباسى، خاصة مسجد «سامراء».
السور الخارجى للمسجد مرتفع، أقرب لسور حصن حربى أو قلعة، يعيد إلى الذهن الحصون القديمة وأسوارها التى تحمى مدنًا، أعلى السور تتراص وحدات الزخرفة على شكل عرائس من الطوب وتوحى لمن يراها من بعيد بأنهم جنود يحرسون السور.
أضافت «مريم»: لقد جئت هنا فى كورس الرسم للتدرب على رسم قبة المسجد، والمئذنة، والأروقة، وتعلمنا المنظور واختلاف التظليل باختلاف مساقط الضوء.
لاحظت وجود ارتباط بين علاقتى بالمساجد وابنتى مريم، ففى معظم زياراتى للمساجد والصلاة بها كانت مريم مرافقًا لى، أو كانت هى السبب فى ذهابى لهذه المساجد، ومنها مسجد أحمد بن طولون، الذى ما إن تدخل من بابه الخشبى الثقيل وتمر على الحصى، الذى يفرش الفناء الخارجى، حتى ينتابك إحساس يجمع بين المهابة والقوة الروحية.
فى هذا المسجد يتكون لديك مزيج رائع من المشاعر الدينية والإنسانية المرتبطة بحكايات وأساطير عن قصة بناء المسجد. التعامل مع المسجد كمكان أثرى متاح للأفواج السياحية، يجعل العاملين بالمسجد يتعاملون مع النساء دون وجل أو خوف أو ريبة، كما هو حال عمال معظم المساجد الذين يتعاملون مع النساء بمنطق «ما الذى أتى بكِ إلى هنا»، وأن النساء مقتحمات وغريبات عن المسجد، وهو المسجد الوحيد الذى استطعت دخوله والتجول فيه دون إيشارب على الرأس، وأديت الصلاة على وقتها فى رواق القبلة.
ذهبت لمسجد ابن طولون أربع مرات خلال العام الماضى، حيث كان مقررًا فى كورس الرسم، الذى تتعلمه مريم بدار الأوبرا أن تكون هناك فى مسجد ابن طولون، خلال المرات الأربع، حرصت على أن نصلى الجمعة بالمسجد وبعدها تنضم مريم لكورس الرسم، وأتجول أنا فى أروقة المسجد، أتأمل نقوشه وألوانه، ويساعد على حرية الحركة بالمسجد وجود غطاء بلاستيكى للحذاء يمنحه لك عمال المسجد مقابل ٥ جنيهات، مما يجعل هناك نوع من الراحة لعدم الاضطرار لخلع الحذاء، وبالتالى الانتقال بحرية بين الأماكن المفروشة بالسجاد والأماكن الخالية من البسط فى صحن المسجد، وربما لا يلاحظ عامل المسجد أو الزائر أن الورقة النقدية فئة الخمسة جنيهات يزين وجهها رسم صورة مسجد ابن طولون، فيما يحمل ظهر الورقة الحالية صورة للوحة فرعونية.
وجود الطلاب الهواة والمحترفين لدراسة الرسم من الذكور والإناث واختلاطهم فى أروقة وصحن المسجد دون فواصل، كما هو حالهم الطبيعى فى كلياتهم ومدارسهم ومعاملهم يعطى مسجد ابن طولون طابعًا مدنيًا أكثر منه دينيا، وعدم وجود مقام أو ضريح فيه يجعله بعيدًا عن مرمى الزحام والمتسولين، مما يذكرنى بالكاتدرائيات الكبرى التى زرتها فى باريس وروما، التى تقوم بأدوار اجتماعية وتتبع لها جمعيات ومؤسسات مهتمة بالفنون والثقافة، وتحرص على الارتقاء بأذواق مرتاديها، فتقدم بها عروض موسيقية وتمثيلية.
يتمتع مسجد ابن طولون بخصوصية تاريخية وحداثية تجعله إضافة إلى ميزاته العديدة، التى أهمها معماريًا احتفاظه بحالته الأصلية، حيث لم يغير الترميم من هيكله، وقد عرف المسجد فى القرن الرابع الهجرى «بالجامع الفوقانى»، تمييزًا له عن مسجد عمرو «الجامع السفلانى»، لأنه شيد فوق ربوة صخرية كانت تعرف بجبل يشكر، منطقة «قلعة الكبش»، ليكون فوق أساس متين من الصخر وحتى يكون بعيدًا عن فيضان النيل، وهو الجامع الخالى من الأعمدة ويرتكز سقفه على دعامات من الطوب الأحمر بدلًا من الأعمدة الرخامية المستخدمة فى أغلب المساجد حتى لا يتأثر بالحريق. وقد حمى المسجد نظام الصرف الخاص به، حيث تم تصميم نظام يجعل المياه بعيدة عن صحن المسجد وفى قنوات جانبية محددة.
وكان بناء جامع أحمد بن طولون سببًا فى سن تقليد خاص بعمال البناء فى مصر، حيث رأى أحمد بن طولون الصناع يبيتون فى الجامع عند العشاء، وكان فى شهر رمضان، فقال متى يشترى هؤلاء الضعفاء إفطارًا لأولادهم اصرفوهم العصر، فصارت سنة إلى اليوم فلما فرغ شهر رمضان قيل له قد انقضى شهر رمضان فيعودون إلى سمتهم، فقال لا لقد بلغنى دعاؤهم وقد تبركت به، وليس هذا ما يوفر العمل علينا فصار انصراف عمال البناء عند العصر تقليدًا استمر إلى اليوم.
وقد يكون مسجد أحمد بن طولون أكثر المساجد التى تربط الأرض بالسماء، من خلال قدرته على تطوير مفهوم المسجد من مجرد مكان لصلاة إلى مكان لحياة، جامعًا بين الدين والدنيا.
وللحديث بقية