رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

البابا كيرلس السادس.. وسر نجاح المباحثات الإثيوبية


بعدد جريدة «مصر» الصادر صباح الثلاثاء ١٠ مايو ١٩٦٠ سجل لنا الأسقف العلامة الأنبا لوكاس، مطران منفلوط وأبنوب «١٩٠٠- ١٩٦٥»، مقالًا رائعًا بعنوان «نجاح المباحثات الإثيوبية فى عهد البابا» إذ كان عضوًا بلجنة المباحثات، فسجل لنا بأمانة شديدة تفاصيل تلك المباحثات، ويكفى أن اسم البابا كيرلس السادس كان يتردد حتى تزول تمامًا أى خلافات.. كم نحن كنا فى أشد الاحتياج لأمثال البابا كيرلس السادس فى أيامنا هذه لننجو من التعسف الإثيوبى البغيض الذى يهدد وطننا الغالى.
كتب الأنبا لوكاس الآتى، إذ إننى ما زلت محتفظًا بالجريدة كاملة:
«فى يوم بهيج من أيام العهد السعيد، عهد البابا البطريرك الأنبا كيرلس السادس، كل أيامه بهيجة بالازدهار الروحى للإيمان المثمر العامل بالمحبة، كنا فى اجتماع برئاسة قداسته، حضره أحبار وأقطاب، أثير فيه موضوع إثيوبيا وسفر الهيئة الخاصة به. واضطررت للاستئذان بترك الاجتماع لمقابلات، وبعد نحو نصف ساعة عُدت إلى الاجتماع فوجدتنى محاطًا بجو يختلف عن السابق، إذ تقرر مرافقتى للهيئة المقرر قيامها إلى إثيوبيا وهى مؤلفة من حبرين وخمسة أقطاب وبرغم إبدائى شعورى بضعف صحتى ورجائى إعطائى فترة للتفكير، أحاط بى قومسيون طبى، وفى سرعة حازمة تقررت صلاحيتى للسفر!! وبإزاء التصميم البابوى وسرعة الإجراءات فى مدى نحو ثلاثة أيام (وهى إجراءات لا يمكن انتهاؤها فى الحالات العادية فى أقل من ثلاثة أسابيع) شعرت بأن الدعوة إلى السفر إلهية لا شك فيها.
وفى الواحدة صباحًا من يوم الإثنين أول يونيو ١٩٥٩ كنت وزميلاى (نيافة الأنبا يؤانس، مطران الخرطوم، والأنبا بنيامين، مطران المنوفية) على وشك ركوب السيارة إلى المطار، إذ بقداسة البابا البطريرك نازل من قلايته الخاصة لكى يودعنا، وبعد أن أمدنا بتشجيعاته وتوجيهاته وبركاته لم يشأ ترك المكان إلا بعد قيام السيارة فاستبشرنا خيرًا.
وفى الواحدة والنصف صباحًا نصل إلى المطار الدولى، حيث فى انتظارنا السادة الأقطاب الخمسة باقى أعضاء الوفد، وهم السادة: اللواء فريد منقريوس، وإميل توفيق دوس، وأمين فخرى عبدالنور، وفهمى حنا، والأستاذ مراد كامل.. وفى رعاية القدير، فى منتصف الثالثة صباحًا تقوم بنا الطائرة لتصل أديس أبابا فى العاشرة صباحًا واستقبلتنا أديس أبابا فى جو باسم جميل، طقسى ومعنوى.
أما الأول فكان جوًا خريفيًا يختلف عن جو قيامنا بالطائرة الذى كان صيفيًا شديد الحرارة، وجو أديس أبابا خريفى مُعطّر بأريج الأزهار فى النهار والليل، جو ممتع على مدار أيام السنة كما علمنا يقينًا، حتى لقد خُيّل إلينا أن نقترح على مواطنينا أن يجعلوها سُنة مقررة حين يستمتعون بجو أديس أبابا فى يوم شم النسيم كما يستمتعون به فى حدائق القناطر وما إليها من متنزهات، مع وجود الفارق الحقيقى بين الاستمتاع الكامل الذى ينفرد به جو أديس أبابا بلا منازع خصوصًا أن المسافة بين القاهرة وبينها سبع ساعات ونصف الساعة فى رحلة جوية ممتعة تُعتبر من صميم الاستمتاع بيوم شم النسيم.
أما ابتسامة أديس أبابا المعنوية التى استقبلتنا بها، فكان لها أعمق الأثر فى النفس، حيث كان تمثيل الكنيسة والدولة فى الاستقبال أكمل تمثيل وأجمله وأروعه.
وفور الوصول والنزول من الطائرة.. قمنا بالسيارات إلى القصر الإمبراطورى لقيد الأسماء. وتمت الإجراءات هناك على أساس أن نبقى فى ضيافة الإمبراطورية مدى شهر، وأُعد لذلك برنامج شامل وموضّح بالزيارات فى مختلف النواحى الإثيوبية التاريخية والأثرية والدينية.. إلخ، ولكن الضرورة حتمت علينا اختزال مدة الإقامة إلى أربعة أيام وفى نطاق أديس أبابا فقط، وذلك لضرورة الانتهاء من مفاوضات القاهرة بعد عودتنا من أديس أبابا، قبل حضور جلالة الإمبراطور إلى القاهرة.
وفى خلال الأيام المعدودات التى ما حسبناها من العمر قمنا بـ: (١): زيارة كنيسة لها روعتها وجلالها، (٢): وضع باقة من الأزهار باسم الوفد البابوى على قبر الأمير (ماكونين) دوق هرر النجل الإمبراطورى العزيز، (٣): زيارة المعاهد الثقافية الإثيوبية بأديس أبابا، المدنية والإكليريكية، وهى معاهد فخمة رائعة مبنى ومعنى ودراسة.. إلخ.. وقد طلب منا السيد مدير الكلية أن نلقى كلمة تشجيعية على طلاب الأقسام الابتدائية والثانوية والعليا، وتم ذلك فى مدرج عام كبير، وكان المترجم فيها لكلمتنا إلى الأمهرية أحد خريجى إكليريكيتنا القبطية بالقاهرة من الإثيوبيين، وكانت الاجتماعات والزيارات ممتعة للغاية.
وكانت هناك وليمة فاخرة فى الدار المطرانية بأديس أبابا جمعت أحبار وأقطاب إثيوبيا، قامت الهيئة القبطية الممثلة فى أبنائها بإعلان أسمى العواطف البابوية التى يكنها قداسة البابا لكنيسة إثيوبيا الإمبراطورية.
وكانت هناك اجتماعات خاصة بالهيئة، وذلك فى (فيلا) الضيافة الإمبراطورية، إذ كنا ضيوفًا على الكنيسة. كما كانت هناك اجتماعات إثيوبية قبطية، بقاعات المطرانية ودار البرلمان.
وقد توجت هذه الاجتماعات الجادة الرائعة الباسمة، بالاجتماع الرئيسى فى قاعة الاستقبال الكبرى بالقصر الإمبراطورى، حيث استقبل جلالة الإمبراطور الهيئة القبطية أجمل وأروع استقبال، وفيه قمنا بتسليم جلالته الكتاب البابوى الكريم، فى عبارات متبادلة كانت تُترجم على التوالى، من العربية فالإنجليزية إلى الأمهرية ومن الأمهرية فالإنجليزية إلى العربية، تجلت فى العبارات المتبادلة محتويات الكتاب البابوى الكريم من عواطف بابوية عميقة الأثر بعيدة المدى، يكنها قداسة الحبر الأعظم لكنيسة إثيوبيا الإمبراطورية، وإعلان عهد جديد بين كنيسة الإسكندرية (الأم) وربيبتها الإثيوبية البكر، عهد جديد يقضى نهائيًا على رواسب الماضى، لتسعد الكرازة المرقسية بسلام ووفاق ورضى ومحبة وازدهار فى الإيمان تتجلى فيه حقًا كنيسة إثيوبيا درة لامعة فى التاج البابوى الإسكندرى للجالس على عرش القديس مار مرقس الرسول.
كما تجلت عواطف التقدير الإمبراطورى المزدانة بسمو سجايا وتقوى وإيمان الابن الأول للكرازة المرقسية جلالة الإمبراطور هيلا سيلاسى الأول الأسد الخارج من سبط يهوذا، إمبراطور إثيوبيا.
وبعد أن قامت أديس أبابا بتوديع الهيئة أروع توديع، قمنا بالطائرة فى منتصف الثالثة بعد الظهر من يوم السبت ٦ يونيو ١٩٥٩ لنصل القاهرة فى العاشرة مساءً. وكانت الرحلة موفقة حقًا توفيقًا رائعًا، أعقبتها اجتماعات بالقاهرة بين الوفدين الإثيوبى والقبطى، وكان حُسن ختامها تفضل قداسة البابا البطريرك بترقية مطران المملكة الإثيوبية إلى مرتبة كنسية جليلة، إلى رتبة (بطريرك جاثليق الكنيسة الإثيوبية) فى حفل منقطع النظير فى يوم الأحد ٢٨ يونيو وبحضور جلالة إمبراطور إثيوبيا هيلا سيلاسى الأول».
حقًا إنها لذكرى عاطرة من ذكريات العهد البابوى السعيد، عهد قداسة الحبر الأعظم البابا كيرلس السادس، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية.
فإذا علمنا أن رسامة البابا كيرلس السادس كانت فى يوم الأحد ١٠ مايو ١٩٥٩ وأن الهيئة القبطية سافرت إلى أديس أبابا فى أول يونيو ١٩٥٩، هذا معناه أنه لم ينم بل كان يتطلع من خلال أبوته الحقيقية وأمومة الكنيسة الصادقة أن يعيد الكنيسة الإثيوبية إلى أحضان الكنيسة الأم. أين البابا كيرلس الآن؟ إنه فى الفردوس يصلى.