رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى بيوت الله «2»



لم يكن فى نيتى زيارة السيدة نفيسة فى ذلك اليوم، كانت وجهتنا زيارة مسجد السيدة زينب بصحبة صديقتى الكاتبة العراقية رجاء الربيعى وابنتى مريم، لكن بعضًا من اللبس حصل لدى «وليد» سائق سيارتنا، جعله يتوجه لطريق السيدة نفيسة.
كان يوم الخامس من فبراير، الليلة الختامية لمولد السيدة نفيسة، ودون أن نخطط وجدنا أنفسنا فى قلب ميدان السيدة نفيسة حيث مئات البشر، يختلط المريدون بالباعة، عشرات العربات عليها الحمص، الترمس، والمشبك الدمياطى، وحلويات متنوعة، وعصافير مسلوقة.. وسيدات أمام آنية ضخمة من الألومنيوم لتجهيز الطعام.. مولد حقيقى، بهجة وفرح ودعاء ورجاء ولهفة وبلالين وسبح ولعب أطفال.. دخلت رجاء المسجد وبقيت أنا ومريم فى الساحة الأمامية، الازدحام والتدافع للدخول والخروج كان شديدًا، اتفقنا أن ننتظرها أمام الباب بجوار أحد الباعة، اشترينا منه «حمص وحلوى» تشبه المشبك الدمياطى، لكنها أكثر كثافة وبنية اللون، قال لنا إنها حلوى مغربية. ووقفت أتأمل هذا المسجد البسيط فى معماره من الخارج والداخل حتى إن غريبًا عن المكان لن يخمن أنه مسجد كريمة الدارين ونفيسة العلم، حفيدة النبى الأكرم، هذه البساطة الآثرة التى هى انعكاس لروح صاحبة المقام، العظيمة التى اختارت مصر وأهلها للسكن والجوار فى حياتها ومماتها، فكأنها الابنة التى كانت غائبة تعود لأخوالها، أشقاء جدتها هاجر المصرية. يحفظ لها المصريون مقام القرب من النبوة ومقام صلة الرحم، وهى تحفظ لهم وصايا جدها العظيم، فلا ترد من يلجأ لها من الفقراء والمساكين والأغنياء والمشاهير، ولكل منهم حاجته التى يقضيها الله بفضله وبركته لهذا المكان العظيم فى قدسيته، حتى إن البعض يقول إنه قطعة من الروضة النبوية الشريفة.
فى انتظارنا والتقاط مريم- الذى يعد هذا أول مولد تراه- الصور، اقتربت منا سيدة خمسينية، أصرت على أن نجلس فى خيمة عائلتها، وأخبرتنا أنها من «بين السرايات» وأنهم يأتون كل عام ويذبحون عجلًا ويقدمون الطعام لمحبى السيدة، شكرتها لأن علينا الانصراف لمواعيد أخرى، أبدت أسفها، فقلت لها: كإننا أكلنا وإنت فعلا كده ضايفتينا.
تحركنا بعد أن خرجت رجاء، ولم نجد السيارة حيث نزلنا، وتطوع شرطى المرور وأخبرنا بأن السيارة تحركت لأنه ممنوع الوقفة. ولا يوجد سوى مخرج واحد، وأشار لنا لشارع ضيق لا يزيد على أربعة أمتار، اتصلت بالسائق فأكد ما عرفنا، وأن الطريق متكدس جدًا، ونستطيع إن سرنا فى الشارع أن نلحق به وهو ما حدث. لا أستطيع أن أصف التكدس، حيث لا يسمح الشارع سوى بمرور سيارة واحدة، ولكن مهارة السائقين المصريين جعلته يسمح بحركة سيارتين للخارج والداخل، سرنا فى الشارع بحركات بهلوانية، ونحن نتنقل من اليمين إلى اليسار وسط السيارات نصف النقل والمكدسة ببشر والسيارات الملاكى والموتوسيكلات وعربات الكارو.. أحيانا كنا نتفادى الخيام المنصوبة على الرصيف، وأحيانا نضطر للمرور عبرها، بعد إلقاء التحية على النائمين والقاعدين فيها.. وأخيرًا وصلنا للسيارة، وبعد وقت خرجنا لشارع أحمد بن طولون
لم أصدق ما حدث، ما هذا التدبير؟ هل له معنى؟ هل يحمل رسالة؟ كثيرون يختارون جوار السيدة نفيسة للسكن، أو للاعتكاف والصلاة، وكنت أخشى زيارة السيدة نفيسة بسبب خوفى من الزحام، وأكتفى بالتطلع إلى مسجدها ومقامها الشريف من الساحة الأمامية لمستشفى المغربى كلما احتجت الكشف الدورى على عينىّ، أعترف بأن لدى فوبيا من الزحام.. تجعلنى مثل الغريق الذى لا يجيد السباحة ووجد نفسه فى عمق البحر، فأتخبط ويحدث تشويش لكل حواسى. وها أنا أحضر جزءًا من الليلة الختامية للسيدة نفيسة دون إرادة منى، وتمر الزيارة بسلام.. رغم كل الزحام.
وعندما أخبرت صديقى الناشر عاطف عبيد أننى كنت فى المولد دون قصد، قال لى: كنت مأمورة بالزيارة.
ولعل أزمة كورونا تنتهى بما يسمح لى بزيارة مقصودة تعكس حبى وتقديرى، الذى لا يعلمه إلا الله، لهذه السيدة العظيمة، التى تتلمذ على يديها أئمة وعلماء، وخضع لسلطان حكمتها ولاة وحكام.