رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الغنوشي (6).. عرّاب الغزو التركي لليبيا


كانت أولى كلمات راشد الغنوشي في مطار تونس، عندما عاد إليها عقب الثورة التونسية عام 2011، الدعوة إلى الاقتداء بنموذج حزب العدالة والتنمية التركي في الحكم، على أساس أنه وفّق بين الإسلام والعلمانية والاقتصاد!، دون أن ينظر إلى كيفية تحول هذا الحزب إلى حزب شمولي حاكم، يقوده سلطان مُستبد، حوّل بلاده إلى أكبر سجن لكل من ينتقده، بشهادة معظم المنظمات الدولية المعنية بالحريات والحقوق.. ولم يُدرك الغنوشي أن أردوغان، وهو ينظر إلى إفريقيا، ويفكر جلياً في كيفية الوصول إليها والسيطرة عليها، قد وضع حكومة السراج والميليشيات التابعة لها في طرابلس الليبية نقطة ارتكار لتحقيق حلمه، ورأى في الحليف القطري ممولاً فوق العادة لمد مشروعه بالحياة، وفي الإسلام السياسي أداة مهمة لتحقيق ذلك.. ويلتقي اللصان في منتصف الطريق، فإن ما يريده أردوغان بالضبط، هو أن الغنوشي، بالنسبة له، خير أداة لنشر الفوضى في بلاده، وإنجاح مشروع الخليفة العثماني في إفريقيا، بينما لا يجد الغنوشي خارج السير في ركاب هذا الطاغية، أي أُفق لمشروعه ومستقبله في تونس.. وهنا علينا تذكر أن العلاقة بين أردوغان والغنوشي ليست وليدة اليوم أو وليدة الارتجال السياسي، وإنما هي علاقة تراكمية وتفاعليه بين المركز والأطراف، وبشكل أدق (الأدوات).. فإسطنبول التي تحولت إلى مركز للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين، باتت بمثابة محطة وقود لتعبئة جماعات الإخوان في العالم العربي، إذ أن هذه الجماعات كلما انكسرت أو تلقت هزيمة في بلدانها، لا تجد سوى إسطنبول مرتعاً لترميم نفسها والإعداد لتجديد هجومها على دولتها الوطنية، تحت شعارات أخلاقية ودينية، في وقت يعرف الجميع أنها ليست سوى شعارات سياسية هدفها الوصول إلى السلطة والحكم.
يزور الرجل تركيا مراراً سراً، يعقد جلسات مغلقة مع أردوغان، يبحث معه تطورات المعارك في ليبيا والأوضاع في منطقة المغرب العربي، وكأنه رئيس للدولة التونسية وليس لبرلمانها المحدد المهام والصلاحيات، فينفجر الشارع التونسي غضباً، وترتفع الأصوات الوطنية المطالبة بإقالته أو رفع الحصانة عنه ومحاسبته، فتتحرك الجيوش السرية لحركة النهضة، وتوجه التهديد تلو التهديد للشخصبات الوطنية، في وقت ما زال دماء الشهيدين بلعيد والبراهيمي يسيل في الشارع، وكأن لسان حال الغنوشي يقول: إما السير في أيديولوجيتي أو دفع تونس إلى الفوضى والانفجار، لأن هذا الرجل يُغلّب كل ما هو أيديولوجي على كل ما هو وطن ودولة ومؤسسات.. وفي الوقت الذي وضع الغنوشي الإسلام السياسي في مواجهة القوى الوطنية التونسية، ويسعى إلى تغيير بنية مؤسسات الدولة وجوهرها، يفكر أردوغان في كيفية تحويل تونس إلى قاعدة عسكرية للإطباق على ليبيا، ومحاصرة مصر، والولوج إلى عمق إفريقيا، التي انطلقت منها طائرات أردوغان لنقل الأسلحة إلى الساحة الليبية بهدف المزيد من الاقتتال، وهو ما جاء بعد أن تأكد لأردوغان أن موجات نقل المرتزفة من سوريا إلى ليبيا لم تعد تكفي لمد السراج بما يكفي لإلحاق الهزيمة بالجيش الوطني الليبي بزعامة اللواء خليفة حفتر، وبعد أن حدّت عملية إيريني الأوروبية من تدفق شحنات الأسلحة التي يرسلها إلى ليبيا، رغم اتفاق برلين القاضي بوقف تدفق الأسلحة والمسلحين المرتزقة إليها.. بل إن النعارضة في تونس تؤكد على أن نشاط ديوان الغنوشي في البرلمان، تجاوز العمل الداخلي إلى ترتيب اللقاءات مع قياديي الإخوان بطرابلس وتونس، وتتزايد المخاوف من أن يتحول مكتب مجلس البرلمان التونسي إلى قاعة عمليات استخباراتية للتنظيم الدولي للإخوان!.
ووسط حالة من التلاطم السياسي، فاجأ الغنوشي الجميع في يناير الماضي، بزيارة غير رسمية مريبة إلى تركيا ولقائه بأردوغان.. الزيارة أثارت تساؤلات كثيرة حول توقيتها وأسبابها، وخلّفت شكوكاً حول أهدافها، ومدى ارتباطها بالوضع الداخلي في البلاد والتطورات الأخيرة في ليبيا.. هرع الغنوشي إلى أردوغان، لتلقي التعليمات لإخراج حركة النهضة من مأزق سقوط الحكومة وقتها، ولاستلام توجيهات المرحلة المقبلة، وللتنسيق حول الوضع في ليبيا بعد الصفعة التونسية برفض الرئيس قيس بن سعيد طلب تركيا السماح لقواتها بالعبور إلى ليبيا.. الزيارة قوبلت بانتقادات شديدة من الأوساط السياسية والشعبية التي اعتبرت الغنوشي خائناً للمسؤولية الوطنية ولموقع رئاسة البرلمان، ومنتهكاً لاستقلالية السيادة الوطنية، وأن قرار حركة النهضة مرتبط بتوجيهات تركيا.. وربما يدرك البعض أن العلاقة بين أردوغان والإخوان أصبحت (نفعية بحتة)، وأن مشروع التنظيم الدولي يتلاقى مع أوهام أردوغان حول دولة الخلافة وسيادة العالم، مشروع أردوغان للدولة العثمانية الجديدة، وبالتالي، فإن التنظيم الدولي لن يتخلى عن تركيا بسهولة، لأنها تمثل أحد أهم مقومات وجوده، باعتبارها محور دولة الخلافة وما يسمونه المشروع الإسلامي، مع أنه من المحتمل أن يضحي هذا التنظيم نفسه بأردوغان، ويدفع بأحمد داود أوغلو بديلاً له في الانتخابات الرئاسية المقبلة، بعد التراجع الحاد في شعبية الأول.. وربما تكون استقالة أوغلو، الرجل الثاني، من حزب العدالة والتنمية، خطوة لبداية عصر رجل جديد، منشق عن الإخوان ظاهرياً ولا يحمل كراهية الشعب التركي، إذا ما قُورن بأردوغان، الذي ظل نظامه يمثل ركيزة أساسية للإخوان، لكنه بدأ فعلياً في التآكل، مع تراجع غير مسبوق في شعبيته وانهيار شبه كامل للاقتصاد التركي، بالتزامن مع التدخل العسكري في شرق سوريا وليبيا، وسط إدانات دولية واسعة.
وجاءت زيارة الرئيس التونسي، قيس بن سعيد، إلى فرنسا لتلقي بظلالها بشكل عنيف على العلاقة القائمة بينه وبين زعيم حركة النهضة الإخوانية راشد الغنوشي، إذ لم تكن تصريحات بن سعيد خلال مؤتمر صحفي مشترك مع نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون، بقصر الإليزيه في باريس سوى قطرة زيت إضافية في نار الخلافات المشتعلة بين رئاسة الجمهورية والغنوشي.. قال الرئيس التونسي، في كلمته، إن بلاده لن تقبل بتقسيم ليبيا ولابد من وقف إطلاق النار بشكل فوري وإنهاء التدخلات الأجنبية، وهو ما يختلف مع موقف إخوان تونس الداعمين لنقل آلاف المرتزقة الدواعش من سوريا إلى تلك البلد.. وأضاف أن شرعية حكومة فايز السراج في ليبيا، هي (شرعية مؤقتة، ويجب المرور إلى وضع أكثر أمناً)، وأنه التقى ممثلين عن عدد من القبائل الليبية واقترح إعداد دستور جديد، ملوحاً بشكل ضمني إلى خطورة التواجد العسكري التركي وما يمثله من خطر إقليمي.
هذا الموقف الناقد لحكومة السراج، والفاضح للتدخل التركي في ليبيا وسعي أردوغان لاحتلال منطقة الهلال النفطي بها، جعل من قيس بن سعيد عرضة لحملة جديدة من التشويهات الإخوانية والتحريض ضده على شبكات التواصل الاجتماعي، في محاولة يراها مراقبون تهدف إلى التقليل من دوره وصورته.. وإثر تلك الكلمة، أطلقت حركة النهضة جيوشها الإليكترونية، في حملة مسعورة، اعتبرت أن بروتوكول استقبال قيس بن سعيد في باريس، إهانة للدولة التونسية، ووصفت أداءه الخطابي بأنه (كان هزيلاً).. والحقيقة أن ذلك لم يكن إلا انتقاماً من رئيس الجمهورية التونسية، الذي لم يتخذ موقفاً متضامناً مع أردوغان، خلال مؤتمره الصحفي مع ماكرون.. وكنوع من التحايل الذي يشي بعلاقات خاصة بين أنقرة وتونس، أكد السفير التركي هناك، علي أنانير، أن (علاقة تركيا جيدة بحركة النهضة، لأن الشعب التونسي صوّت في الانتخابات لصالحها)، مشيراً إلى وجود (علاقات خاصة) بين الرئيس التركي رجب طيب أروغان ورئيس حركة النهضة الاسلامية راشد الغنوشي!!، متجاهلاً في ذلك أن لتونس رئيس واحد، هو من يتحدث بلسانها.. ولهذا، يتهم معارضون تونسيون حركة النهضة بأنها الذراع التونسية لتنظيم الإخوان الذي ترعاه تركيا، وقد عزز تدخل الغنوشي في الملف الليبي، واصطفافه خلف الأجندة التركية القطرية على حساب الموقف التونسي المحايد هذه الاتهامات، مما دفع أحزاب المعارضة التونسية إلى المطالبة بعزله من رئاسة البرلمان.. وهنا تقول رئيسة الحزب الدستوري الحر، عبير موسي، إن (حركة النهضة ما هي إلا واجهة سياسية للتنظيم الدولي للإخوان)، كما تتهمها بالاصطفاف خلف أجندات التنظيم في ليبيا والمنطقة برمتها.
الخلاصة.. إن السلطان أردوغان سيمضي في لعبة الدم الليبي حتى النهاية، والثابت أيضاً أن منطقة المغرب العربي تحولت إلى نقطة جذب لنشاط المحور التركي ـ القطري.. والثابت أيضاً أن الغنوشي سيواصل تماهيه مع سياسة أردوغان ووضع الأيديولوجية في مواجهة الدولة الوطنية، وهو ما يفرض على الشارع التونسي وأحزابه وحركاته ومؤسساته المدنية التحرك لوضع نهاية لهذا العبث، انتصاراً لدولتهم الوطنية، كما يتطلب وقفة عربية ودولية مع هؤلاء، كي لا تتحول تونس إلى قاعدة جديدة لأردوغان للعبث بأمن الدول العربية ومصير شعوبها، وهذا ما يهدف إليه الغنوشي ويسعى من أجل تحقيقه، لأنه يزيد من قوة حركته بقدر ما يُزيد من أمواله التي تضخمت وأصبحت بالمليارات.. وهذا حديث الإسبوع القادم والأخير.. حفظ الله مصر وسائر بلادنا.. آمين.