رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عصر البركة والبساطة فى فترة البابا كيرلس السادس


«أصله حارت ومستنى السيل».. مثل يُقال على من يتعب باجتهاد فى انتظار عطية الله له. ومنشأ هذا المثل هو الفلاح اليقظ الذى يحرث أرضه ويبذر البذر ويشق القنوات المائية فى أرضه الزراعية حتى حينما يأتى السيل تجد المياه طريقها بسهولة إلى أرضه فتُروى جيدًا وينبت الزرع ويكون الحصاد وفيرًا. وهذا التعبير يُستخدم بكثرة فى الحياة الرهبانية القديمة على الشخص الذى يهيئ نفسه للحياة الرهبانية الشاقة وينتظر سيل نعمة الله عليه، فينمو أكثر وأكثر فى الحياة الرهبانية الصادقة ويكون مرشدًا روحيًا حقيقيًا لكثير من الشباب طالبى الرهبنة. وأمامنا مثال واضح لشخص حرت بصدق ولما جاء السيل غمرته نعمة الله، ففاضت النعمة عليه وعلى الكنيسة كلها وهو شخص البابا كيرلس السادس «١٩٠٢- ١٩٧١» البطريرك ١١٦.
الشاب عازر يوسف عطا «من مواليد ٢ أغسطس ١٩٠٢»، أعد نفسه منذ فترة شبابه المبكر للحياة الرهبانية المخلصة. وعندما اكتملت نفسه لدخول معترك الرهبنة غادر الإسكندرية فى عام ١٩٢٧ متوجهًا إلى دير البراموس بوادى النطرون، وفى الدير ظهرت أمانته فى الرهبنة الصادقة، فكان الله يعده بطرق شتى حتى كان عام ١٩٥٩ حينما وجد نفسه- دون أن يعلم- مرشحًا للبابوية، فكانت كلمته المشهورة: «يروح فين الصعلوك بين الملوك»، ثم كانت إرادة الله الحقيقية- وليست إرادة البشر- أن يكون بابا وبطريركًا لكرسى الإسكندرية «وليس الإسكندرية والقاهرة!» فى ١٠ مايو ١٩٥٩. فكان أمينًا جدًا فى رسالته.
عاش الراهب مينا البراموسى المتوحد بإحدى طواحين جبل المقطم نحو خمس سنوات، بدأت منذ توقيع العقد بينه وبين مدير هيئة الآثار العربية بالإنابة فى ٢٣ يونيو ١٩٣٦ نظير أجر شهرى يدفعه الراهب وقيمته خمسة قروش، وانتهت الإقامة فى ٢٨ أكتوبر ١٩٤١ بعد أن طلبت هيئة الآثار العربية استرداد الطاحونة التى كان يقيم بها الأب الراهب لإجراء بعض الاستكشافات العلمية.
وفى مشهد درامى حزين- كما سجل لنا الأستاذ نبيل عدلى الصحفى النشط بجريدة «وطنى» فى كتابه «قلاية المعجزات» الصادر عام ١٩٩٧- التف أبناء الراهب مينا البراموسى المتوحد من حوله ممن اعتادوا التردد عليه بالطاحونة والدموع تذرف حزنًا وألمًا على رحيل الراهب، التقى الذى ألفت الآلاف محبته وعطفه وتقواه، وكانت تتردد عليه بانتظام رغم وعورة صعود التل الترابى.. كما كانت صلواته التى لا تنقطع التى كان يُعزيها على الدوام لشفيعه القديس مينا العجائبى السبب الأكبر فى ارتياد الناس هذا المكان القصى المُقفر. وكم كان يستلذ لهذا الراهب أن يحيا بعيدًا عن العمران والناس، لأنه كان صادقًا فى رهبنته ومحبته الحقيقية للكنيسة.
وامتثالًا لإرادة السماء خرج الراهب المتوحد بعد أن وضع فى صمت ملابسه فى «صُرة» صغيرة- وماذا نتوقع من ممتلكات راهب ترك الدنيا وعاش فى البرية؟ وتبعه أبناؤه وأحباؤه يودعونه متطلعين إلى طلعته الملائكية. ووسط هذا المشهد المؤلم للجميع وقف هو يخفف عنهم مرددًا: «هذه مشيئة الله الذى مقاصده سامية وهو لن يتخلى عنى.. فالذى يوفر الغذاء لأضعف طير، سوف يعطينى السكن والخبز.. لا تقلقوا إذن علىّ». ثم بارك مودعيه وسلم الطاحونة للمسئولين عن إدارتها، ونزل إلى منطقة دير الملاك القبلى بمصر القديمة ضيفًا على الأب الكاهن القمص أقلاديوس. وعندما كنت أتوجه لزيارة كنيسة مار مينا بمصر القديمة- عند محطة مترو الزهراء- كنت أعرج على كنيسة الملاك القبلى، وأتوجه لزيارة الحجرة التى أقام بها الناسك الأب مينا البراموسى المتوحد. هكذا ترك الأب مينا المتوحد تل طواحين الهواء دون أن يكون له مكان يتمتع بخصائص الهدوء والسكينة والبُعد عن العمران. نعم لم يهتم الراهب المتوحد كثيرًا عندما هم بالهبوط من تل الطواحين، ولم يخطر بباله تساؤلات على شاكلة: إلى أين أذهب؟ ومَنْ أقصد من الناس؟ وما مصيرى كراهب يسعى لحياة التوحد والبُعد عن الناس للاتحاد بالواحد؟ وما خدمتى التى يرتبها لى الرب؟ هكذا ألقى المتوحد حمله كله- بثقة كاملة- على الرب فلم يتركه لحظة واحدة بل رتب له العديد من الخدمات الجليلة التى نمت بالصلوات، وأصبحت علامات بارزة فى حقل خدمة الكنيسة والوطن أيضًا، حتى صار الناس يتهامسون فيما بينهم: «أين أيام البابا كيرلس السادس؟». بعد فترة اهتم بعض المحبين لكنيستهم أن يقيموا كنيسة القديس مينا بالزهراء، وأعتقد أن تأسيسها كان عام ١٩٤٧، وقامت الكنيسة بتقديم خدمات متنوعة لم تكن موجودة من قبل بالمنطقة كخدمة القرى والمرضى والفقراء وخدمة الطلبة المغتربين جسديًا وروحيًا. لذا اضطلع الراهب مينا المتوحد بعد بناء الكنيسة ومبنى الدير ببناء مبنى يأوى إليه الطلبة المغتربين ممن يدرسون بكليات جامعة القاهرة. وقد أوى هذا المبنى الكثير من الطلبة الذين وجدوا فيه الراحة والجو المناسب للاستذكار وأيضًا الرعاية الروحية الصادقة والأمينة من أب راهب محب للصلاة. كانت البركة تزداد يومًا بعد يوم بدير القديس مينا بمصر القديمة الذى أصبح مصدر بركة وإشعاع خدمة لكل أبناء الكنيسة دون تفرقة.. فالفقراء والبسطاء كانوا يجدون عند الراهب المتوحد كل العطف والأبوة والبركة والحكمة. كان قديس المكان يعطف على الفقير، ويصلى للمريض، ويحتمل الشيخ، ولا يتردد فى تقديم الأبوة الصادقة للشباب الصغير. كما اتجه الراهب المتوحد لإنشاء مركز التدريب المهنى لتعليم الفقراء الحِرف المختلفة كيما تنفعهم وتكون مصدر رزق لهم بدلًا من طلب الحاجة والعيش فى ضيقة.
أما عن حياة الراهب المتوحد: «لا يعرف فى الصلاة نهارًا أو ليلًا. فقد يبدأ الصلاة على ضوء مصباح، ويتقدم الليل ويتسلل الفجر، ويقتحم الصباح صومعته وهو يصلى. نومه قليل يتقطع ليخف إلى الصلاة». أما عن قلاية الراهب: «الحجرة بلا ساعة تدق وتنبه إلى الوقت كيما يقوم من فراشه فى منتصف الليل! وفراشه متواضع، سرير أبيض كأسرة المرضى، وعليه بطانية، وتكسو حشيته ملاءة بيضاء، وعلى طرف السرير فوطة.. فليس للفوطة موضع من الحجرة غير طرف السرير! والسرير فى حجرة ضيقة مساحتها ٣ فى ٤ أمتار! وفى الحائط نافذة، وبالنافذة ثقوب يتسلل منها هواء بارد، وعلى النافذة صحيفة تغطيها! تمنع بعض برد الليل. ومحتويات الغرفة- عدا الفراش- تدل على صاحبها.. مائدة خشبية عليها صفوف من الكتب المقدسة، وتفسيرات الإنجيل، وكتابات أقوال الآباء، وعليها شموع وصلبان، ويرتفع إلى جانب المائدة دولاب صغير، وفى الدولاب كتب. وحول المائدة مشجب ذو ذراعين، على ذراع جلباب من قماش رخيص، وفى الجلباب أكثر من رتق، وعلى الذراع الأخرى شال أسود». هذه هى كل ممتلكات الراهب الورع على الأرض، أما فى السماء فله كثير.
كان يحرص على مطالعة كتابات «مار إسحق السريانى» حتى إنه قام بنسخ أربعة أجزاء، كل جزء يقع فى ٣٠٠ صفحة نسخها بخط يده، وتركها للرهبان كيما يمتلئون من حكم مار إسحق السريانى. هذا الذى أشارت عليه السماء فى قرعة ١٩ أبريل ١٩٥٩ فكان هو المختار من الله، فكان عهده كله بركة بعكس ما حدث فى ٤ نوفمبر ٢٠١٢ من مأساة.