رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

التسامح المرفوض


تحت عنوان «البرنس» والخاتمة السلبية كنت قد كتبت مقالًا فى إحدى الصحف المصرية منتقدًا الدعوة للانتقام التى وجهها الفنان محمد رمضان للمشاهدين فى نهاية مسلسل «البرنس»، ودعوت إلى التسامح والعفو عن المسىء بدلًا من الانتقام، وبمجرد نشر المقال تلقيت الكثير من الرسائل الإلكترونية والاتصالات التليفونية، منها ما هو مؤيد لما جاء بالمقال، ومنها ما أبدى بعض التحفظات على التسامح دون ضوابط.
من بين الرسائل التى انحازت للتسامح وضرورة الارتقاء بالرسالة الفنية رسالة المهندس سامى فهمى محمد، والدكتور مجدى لطيف السندى، الخبير التنموى بالأمم المتحدة والبنك الدولى، ومن فرنسا رسالة الصحفى الرسام الأستاذ محمود السعيد، ومن الرسائل التى رأت أن عقاب الجناة هو أحد مظاهر العدل رسالة الأستاذ عاطف المغربى من الإسكندرية، وتعليقًا على المقال عبر الهاتف سألنى الفيلسوف المصرى الأستاذ الدكتور مراد وهبة سؤالًا مباشرًا: هل تتسامح مع الإرهابيين؟! وكانت إجابتى قاطعة: «لا تسامح مع الإرهابيين، لأن الإرهابيين هم أعداء التسامح».
ولفظة «تسامح» فى اللغة العربية لها مدلولان من المهم التفرقة بينهما، الأول لفظة «تسامح» بمعنى الغفران «Forgiveness» أى العفو عن الإساءة، ولعل هذا هو المعنى الذى كنت أقصده فى مقالى السابق.
والمدلول الثانى للفظة «تسامح» مشتق من اللفظة اللاتينية «Tolerantia» وتعنى لغويًا «التساهل»، واستعداد المرء لأن يترك للآخر حرية التعبير عن رأيه حتى ولو كان رأيه خطأ أو مغايرًا لرأيه، وفى معجم «وبستر» تعنى كلمة «Toleration» سياسة التسامح المتبعة مع كل الآراء الدينية وأشكال العبادة المناقضة أو المختلفة مع المعتقد السائد، كما تعنى لفظة «Tolerance» استعداد المرء لتحمل معتقدات وممارسات وعادات تختلف عما يعتقد به.
وحول هذا المدلول «للتسامح» «Tolerance» يمكننا هنا أن نسوق بعض الإجابات التى تلقتها منظمة «اليونسكو» عن سؤالها الذى طرحته عام ١٩٩٥: ما التسامح؟
التسامح هو احترام حقوق الآخرين وحرياتهم، وهو اعتراف وقبول للاختلافات الفردية، وهو تقدير التنوع والاختلاف الثقافى، وهو انفتاح على أفكار الآخرين وفلسفاتهم، بدافع الرغبة فى التعلم والاطلاع على ما عندهم، وهو الاعتراف بأنه ليس هناك فرد أو ثقافة أو وطن أو ديانة تحتكر المعرفة والحقيقة.
واضح من كل هذه التعريفات أن التسامح يعنى قبول الاختلاف، وأن التسامح نقيضه هو التعصب الذى ينفى الاختلاف ويسعى للبحث عن التماثل وإنكار أى شكل من أشكال التنوع والاستقلال، والتعصب هو تقديس للأنا وإلغاء للآخر، فكل ما تقوله «الأنا» يدخل فى حكم الصحيح المطلق، وكل ما يقوله الآخر يدخل فى حكم الخطأ، ويقود هذا إلى موت لغة التواصل والحوار بين البشر، وحين يموت منطق الحوار تنطق الحراب والبنادق، وتحفر الخنادق، وتستباح الدماء، وعلى الصعيد الدينى فإن عدم التسامح يعنى التمييز بحجة الأفضلية ومنع الاجتهاد وتحريم وتكفير أى رأى حر فى ظل تبريرات ضبابية، تمنع الحق فى إعطاء تفسيرات مختلفة، خصوصًا ضد ما هو سائد، وأحيانًا تزداد اللوحة قتامة فى ظل الدين الواحد عبر التمترس الطائفى أو المذهبى فى محاولة لإلغاء الفرق والمذاهب والاجتهادات الأخرى، بل فرض الهيمنة عليها بالقوة، ولذا فالإرهابيون لا يؤمنون بالتسامح، لأنه لا يخدم أجنداتهم، ولا يتوافق مع ما لديهم من أفكار عنف إقصائية، ومن ثم فهم يستغلون مفهوم التسامح لفرض مفاهيمهم التى تنافى وتقصى التسامح، ومن هنا يكون التسامح مرفوضًا مع من يستغلون قيم التسامح لفرض اللاتسامح.