رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

"بناء مسجد وحرق جثته أو دفنه في الصحراء".. كيف فكر رشدي أباظة في الموت

 رشدي أباظة
رشدي أباظة

في حوار مطول له مع مجلة الشبكة عام 1974، ذكر الفنان الراحل رشدي أباظة حكاياته مع الموت، وكيف يراه ويفكر فيه، يقول رشدي أباظة:" اشتريت خمسة أفدنة وبنيت عليها كوخًا من حجارة بيضاء، وبعيدًا في منتصف الأرض بنيت غرفة لابنتي "قسمت"، ملحق بها حمام صغير ومطبخ أصغر، كأنها ديكور لتصوير لقطة غريبة حالمة، وقسمت هي التي صممتها، وفي نيتي أن أبني مسجدًا بعد غرفة قسمت، يصلي فيه الفلاحون في تلك المنطقة، وربما يصلي فيه عابر السبيل إلى الإسكندرية، لأن أرضنا على أول الطريق إلى الإسكندرية، بينما الأهرامات الثلاثة تقف إلى الخلف منها كسور هائل يطاول عنان السماء، ما يشغلني حقيقة بعد المسجد هو المقبرة، فنحن نعتني بدورنا في هذه الدنيا ولا نعتني بالدار الآخرة، بل لا نتذكرها إلا عنندما يختطف الموت عزيزًا إلى قلوبنا.

وتابع:" حين مات خالي ذهبنا في جنازته، وكانت هناك مقبرة لنا في مدافن الروم الكاثوليك لأن أسرتي إيطالية، ولكننا وجدناها مشحونة بالنزلاء وفيها تصطف صناديقهم الخشبية صندوقًا بجوار صندوق، وتبادل المشيعون النظرات وفي أعينهم دموع، وصاحت أمي بلوعة :" ليس لك في القبر مكان.. فلماذا لم تبق بيننا، وقال تربي عجوز:" في مثل هذه الحالات يمكن أن نجمع عظام كثيرة في صندوق واحد، ونتخلص من الصناديق الفارغة فنخلي مكانًا للوافدين"، فقالت واحدة من سيدات الأسرة، :" جرى العرف على أن يقوم بهذا واحد من أبناء الأسرة"، وطارت الأعين لتستقر على فلم أتردد، دخلت القبر وفتحنا الصناديق فامتلأ المكان الصدئ الهواء بالعفن، عجبت لأحبائنا في هذه الرائحة، أمسكت دموعي بصعوبة حين فتحت تابوت جدي، كان عزيزًا علي وأحبه من كل قلبي، ووجدت عظامه وخاتمه وسنتين ملتصقتين وكانتا من البلاستيك، فوضعتهما في جيبي تذكارًا، ونفذت إلى أعماقي حكمة الموت، عندما نصبح كومة عظام هشة، حين لا يبقى منا إلا سيرة وذكرى.

واستطرد أباظة:" يومها عرجت على قبر الفنانة كاميليا ووضعت زهرة، ووقفت عند قبر الفنان استيفان روستي ورشقت وردة، وقالت لي أمي:" جئنا ندفن خالك .. ولم تجئ "للطلعة" على كل الموتى"، ولم أنم تلك الليلة، فقد ظل شبح الموت جاثمًا على خيالي، واستعدت مواقف من فيلم أمريكي كانت للبطل فيه فلسفة خاصة، ولهذا كتب وصيته بأن يحرق جسده، ويوضع الرفات في زجاجة تبقى عند حبيبته أو عند أولاده لا أذكر.

وواصل:" واستعدت ما قرأت عن موتى الهنود وهم يحرقون، ويذر الرماد فوق النهر المقدس، فالماء الجاري فيه طهارة، وهو أروع مقبرة لتلك العقيدة الهندوسية، واختمرت الفكرة في رأسي، فكرة أن يحرق جسدي بعد موتي، ورحت أسأل رجال الدين رأيهم، فقالوا لي إن الشريعة الإسلامية ترفض هذا، واستقر رأيي على بناء مقبرة في الرمال، فاللرمال قدرة على الاحتفاظ بالجسم البشري أطول مدة ممكنة، وأرضي الجديدة على أطراف الصحراء، ولهذا ستكون هناك مقبرتي، وذلك حسبما ذكر رشدي أباظة في حوار مطول لمجلة الشبكة عام 1974.